مَن صاحب ملكية مياه نهر النيل؟

انتظاراً لما قد تسفر عنه المهلة الأخيرة للتوصل إلى اتفاق نهائي بشأن سد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان أواخر يناير/كانون الثاني، يظل السؤال الأبرز الذي أفرزته تلك الأزمة الخطيرة وهو: من يمتلك المياه؟ عدم الإجابة عن هذا السؤال في أزمة السد الذي يصفه المصريون بسد “العطش”، يمثل بداية لحروب المياه ليس فقط في إفريقيا؛ بل حول العالم.

مجلة فورين بوليسي الأمريكية نشرت تقريراً، بعنوان: “مصر وإثيوبيا على أعتاب توقيع اتفاق تفاهمٍ مبدئي يتعلق بسد النهضة، تناولت فيه فرص التوصل إلى اتفاق نهائي، وما قد يعنيه عدم اتفاق الأطراف.

لماذا لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي؟

بعد ثلاثة أيام من المناقشات المكثفة في واشنطن، تحت رعاية وزارة الخزانة الأمريكية والبنك الدولي، ربما وُضع الأساس لاتفاق مبدئي يمكن أن ينزع فتيل التوترات المتفاقمة بين مصر وإثيوبيا والمتعلقة ببناء الأخيرة أكبر سد تشهده قارة إفريقيا.

لم تُفضِ المحادثات الإضافية -التي استغرقت يوماً زائداً على الموعد المحدد سلفاً- إلى اتفاق نهائي بعدُ بشأن الأسئلة الأصعب المتعلقة بطريقة تشغيل إثيوبيا لـ “سد النهضة الإثيوبي العظيم” (GERD)، أو معالجة مخاوف مصر على نحو كامل، من الكيفية التي قد يؤثر بها مشروع الطاقة الكهرومائية في تدفُّق نهر النيل، الذي يمثِّل شريان الحياة للبلاد، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، على مدى آلاف السنين. اتفق البلدانِ، ومعهما السودان، على الالتقاء مجدداً في نهاية يناير/كانون الثاني، في اجتماع يرمي إلى تعيين ومعالجة هذه الأسئلة الفنية تحديداً، والتي ما فتئت تأبى حتى الآن التوافق حولها، وأفضت إلى اتهامات عنيفة متبادلة بين القاهرة وأديس أبابا.

ولكن على الأقل، بعد أربعة اجتماعات غير حاسمة في الأشهر الأخيرة، يبدو أن مصر وإثيوبيا والسودان توصلت إلى اتفاق بشأن المتبقي لحله إذا أرادت تلك الدول تجنب صراع مفتوح، بسبب المشروع الذي أخذ يثير نوايا سيئة وتهديدات بالتدخلات العسكرية منذ أن أعلنت إثيوبيا، لأول مرة، عن عزمها بناء السد، قبل ما يقارب عقداً من الزمان.

وقالت الأطراف المعنيَّة، في بيان صدر يوم الأربعاء: “ستجري عملية ملء السد على مراحل، وستنفَّذ على نحوٍ يُتيح التكيُّف والتعاون بين الأطراف كافة، ويأخذ في الاعتبار ظروف الفيضان والجفاف في النيل الأزرق، والأثر المحتمل لعملية ملء السد على دول المصب”.

الاتفاق المبدئي لا يزال مهماً

إن الاتفاق المبدئي لا يزال مهماً، حتى وإن ترك عدداً من التفاصيل المهمة دون تعيين، وذلك لأن إثيوبيا لا يفصلها سوى أشهر قليلة عن بدء عملية ملء الخزان العملاق للسد، والتي قد تنتج عنها بداية تقليص جريان المياه المتدفق إلى مصر، التي تقع على مصب النهر. وقد أصبحت المعركة المتعلقة بسد النهضة أحد أكثر نزاعات المياه متابعةً في العالم، وإذا لم تُحل قريباً، فقد تكون نذيراً بما سيأتي، بعد أن أفضى التغير المناخي واضطراب أنماط هطول الأمطار إلى الضغط على نحو أشد وطأة على البلدان التي تعاني إجهاداً مائياً، علاوةً على تزايد عدد السكان فيها.

ويقول بول سوليفان، خبير الشؤون المائية والطاقة في “جامعة الدفاع الوطني” الأمريكية: “إنها تُنذر بقضايا المياه التي سنواجهها في المستقبل، والتي ستكون المياه فيها محل تنازعٍ أكبر بكثير مما كانت عليه في الماضي”. وقد استغرق الأمر ثماني سنوات من البلدان الثلاثة في مساعٍ لإيجاد حلٍّ، حتى اتجهت أخيراً إلى فتح الباب أمام الوساطات الدولية بالعام الماضي، في حال تعذُّر حل الخلافات.

وأضاف سوليفان: “لن يقتصر الأمر على نهر النيل. سيكون هناك مزيد من النزاعات الضخمة حول المياه، وإذا لم نتمكن من حل هذا النزاع، فإن الأمر ينذر بما هو أسوأ”.

كشفت هذه المواجهة بين مصر وإثيوبيا عن أوراقها بدايةً من عام 2011، عندما استغلت إثيوبيا انشغال مصر باحتجاجات الربيع العربي للبدء في مشروع بناء السد الذي طالما خططت له، وهو مشروع مائي ضخم لتوليد الكهرباء على النيل الأزرق على مقربة من الحدود مع السودان. يمثل مشروع السد حلماً للبلاد منذ ستينيات القرن الماضي، ويهدف إلى توفير كميات هائلة من الكهرباء النظيفة للأمة المتعطشة إلى الطاقة، وهي طاقة يمكن أن تغذي التنمية الاقتصادية وتجلب أرباحاً نقدية ضخمة من خلال بيع الكهرباء دولياً. وعلى مدى عديد من الإدارات الإثيوبية، بات السد مشروعاً لا مناص عنه سياسياً، خاصةً أن الإثيوبيين أنفسهم هم من جمعوا تكلفته البالغة 4.6 مليار دولار، من خلال إصدار سندات شعبية لتمويله، وقد تضاعفت رمزية الأمر هذا العام، بعد أن جرى تأجيل الانتخابات البرلمانية في إثيوبيا مؤقتاً إلى أواخر الصيف أو الخريف، انتظاراً للشروع في عملية ملء السد.

أمَّا مصر، فإن السد الواقع على منابع نهر النيل يعد تهديداً وجودياً محتملاً لها، فنحو 90% من مياه مصر تأتي من النيل، وقرابة 57% من مياه النيل تأتي من مجاري النيل الأزرق، التي تسعى إثيوبيا للتحكم فيها من خلال السد. علاوة على أن هذا السد سيكون سداً ضخماً: فالخزان الموجود خلف السد، بمجرد ملئه سيحبس نحو 74 مليار متر مكعب من المياه، أي ما يزيد على مقدار الماء المتدفق طوال عام كامل، من خلال هذا الموقع من النهر.

وقد سبق أن هدد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، خلال السنوات الأخيرة، باستخدام القوة العسكرية لوقف بناء السد، ولا يزال الأمر حاضراً بقوة في كل من الصحافتين المصرية والإثيوبية. في البداية، عارض السودان، الذي يقع في الوسط بين البلدين الآخرين، مشروع السد، غير أنه استحال إلى دعمه بمرور الوقت؛ لما يعِد به من منافع من جهة الزراعة والطاقة الكهربائية، كما أنه يمثل وسيلة للتحكم في التدفق غير المنتظم لمياه النهر، والذي كثيراً ما يسفر عنه فيضانات مدمرة.

الخلاف حول السؤال الأساسي

من وجهة نظر مصر، يعد المشروع الإثيوبي انتهاكاً لمعاهدة 1959 التي قسَّمت أساساً مياه النيل بين مصر وإثيوبيا، مستبعدةً إثيوبيا من الحسابات تماماً. ومنذ ذلك الحين، أخذت مصر تستخدم مياه النيل بكميات أكبر من الحصص التي خصصتها المعاهدة لها، لأن الاقتصاد السوداني المتأخر استهلك أقل حتى من الحصة المخصصة للبلاد. أما الآن، فإن إثيوبيا تطالب مصر في الأساس بالتخلي عن إمدادات المياه الكبيرة التي لطالما اعتمدت عليها، على الأقل في السنوات القليلة المقبلة.

وتعليقاً على ذلك، يقول سوليفان: “إنهم يختلفون حول الأساسيات: من يملك المياه؟ إنها إحدى مشكلات المياه التي لا يمكن حلها تقريباً”.

ويقول كيفن ويلر، وهو متخصص بالقضايا المتعلقة بنهر النيل في جامعة أوكسفورد، إن المحادثات الجارية في واشنطن، والاجتماع المقبل المقرر عقده بنهاية هذا الشهر، لا يجيبان على أي نحوٍ عن سؤال في غاية الأهمية، وإن بدا سؤالاً فنياً، وهو: ما المدة أو السرعة التي تسعى إثيوبيا خلالها إلى ملء الخزان وتشغيل المحركات خلف السد؟

إذا كانت إثيوبيا، كما تعهدت أكثر من مرة، تسعى لملء الخزان بالقدر الكافي لإدارة المحركات وتشغيلها في أسرع وقت، فإن هذا يعني انخفاض حصة مصر من المياه على المدى القصير. ولكن إذا كانت إثيوبيا تعتزم ملء الخزان ببطء، وهو ما يسمح بتدفق جزء من المياه عبر مجرى النهر، فإن الأمر قد يستغرق عدة سنوات لتحقيق هدفها الكامل من المشروع، الذي استغرق بالفعل عشر سنوات منذ بداية العمل فيه.

وقد ورد أن إثيوبيا رفضت خلال الجولة الأخيرة من المحادثات الفنية، مطالبات مصرية بملء الخزان على مدى فترة قد تتراوح ما بين 12 و20 عاماً، وهو تاريخ بعيد جداً لإثيوبيا التي تحتاج استرداداً أكثر قرباً لاستثماراتها الضخمة، وهي الفترة التي يذهب الإثيوبيون إلى أنها قد تستغرق من خمس إلى سبع سنوات فقط.

القضية ليست في عدد سنوات ملء الخزان

لكن ويلر يقول إن محل الأهمية في الأمر لا يتعلق بعدد السنوات التي يتفق عليها الطرفان لملء السد، بقدر الاتفاق على كمية المياه التي سيُسمح بمرورها عبره خلال سنوات الملء، ومدى مرونة تلك الخطط فيما يتعلق بحساب سنوات الجفاف المفاجئة أو الهطول الوفير للأمطار.

ويضيف ويلر: “يمكن أن يكون عنصر الوقت مرناً، بحيث يتحدد بناءً على معدلات متفق عليها لحبس وإطلاق مياه النهر”، وذلك حتى تتمكن إثيوبيا من ملء الخزان على نحو أسرع خلال فترات المطر الغزير (مثل هذا العام)، وعلى نحو أبطأ خلال فترات الجفاف، كما في عام 2015.

وهناك قضايا ذات صلة عجزت هذه المحادثات الفنية حتى الآن عن معالجتها، مثل استعداد إثيوبيا لضمان أن السد العالي بأسوان في مصر تصل إليه المياه الكافية بالنسبة له لتوليد الكهرباء. قال ويلر: “في ظل ظروف هيدرولوجية متوسطة، سينخفض مستوى المياه في السد العالي بأسوان، لكنه لن ينخفض إلى مستويات حرجة على الأغلب”. وأضاف: “السؤال الأكبر هو: ما الذي سيحدث إذا جاء الجفاف في وقت الملء؟”.

ولهذا السبب تريد مصر نوعاً ما من الضمانات؛ لضمان أن إثيوبيا ستضمن لها أن السد العالي بأسوان سيحصل على ما يكفيه من المياه في أثناء السنوات التي يستغرقها السد الجديد للامتلاء، لكن حتى الآن لم يصل الجانبان إلى اتفاق أخير يتضمن مثل هذه الالتزامات.

تناول الأطراف الخمسة بواشنطن في الأساس التساؤلات الكبيرة، لكنهم أجَّلوا حلها إلى وقت آخر. إذ قالوا في بيان: “المراحل التالية للملء ستتم وفقاً لآلية سوف يُتفق عليها، وتحدد إطلاق المياه بناءً على الحالة المائية للنيل الأزرق، ومستوى السد الإثيوبي العظيم، الذي يتماشى مع أهداف التعبئة الخاصة بإثيوبيا، وتوافر توليد الكهرباء، وتدابير تخفيفية مناسبة بالنسبة لمصر والسودان في فترات مطولة بالسنوات الجافة، وأوقات الجفاف، وأوقات الجفاف المطول”. 

وهناك إمكانية لعقد اتفاق من الناحية الفنية، لكن السياسة بمصر وإثيوبيا تقف في الطريق. إذ إن أهمية النيل بالنسبة لوجود مصر من الأساس تجعل مسألة تدفق النيل سؤالاً وجودياً، وحماية حقها التاريخي في مياه النيل تجعلها مسألة وطنية شائكة. أما إثيوبيا من جانبها، فإنها تريد أن ترى عائداً سريعاً لمشروعها الذي كلف تقريباً 5 مليارات دولار، وصدَّرته الحكومات المتتالية للشعب على أنه مستقبل الدولة الاقتصادي.

قال ويلر إنه إذا كانت هناك ثقة كافية بين الجانبين، فستكون هناك حلول تقنية للمشكلة، وهي حلول تمكّن إثيوبيا من ملء الخزان وبدء توليد الطاقة بوقت معقول، في حين تضمن أقل قدر ممكن من تعطل تدفق مياه النيل إلى مصر، خاصة إذا كان هناك أي تكرار للجفاف الذي حدث في عام 2015.

في دراسة مؤثرة في عام 2016، وجد ويلر ورفاقه من مؤلفي الدراسة، أنه ما دامت إثيوبيا تضمن حداً أدنى معقولاً من تدفق المياه، وهو ما يقولون إنه 35 مليار متر مكعب في العام، وتُوافق على المساعدة في الحفاظ على امتلاء السد العالي بأسوان بما يكفي في أثناء مرحلة الملء، في حين تعِد مصر باتباع إجراءات تخفيف الجفاف من جانبها- فبإمكان كلا الجانبين النجاة في فترة بناء السد الإثيوبي، بأقل قدر ممكن من الاضطرابات.

استنتجت الدراسة أن “هناك بالتأكيد حلاً وسطاً”، وقدمت خارطة طريق للمحادثات الفنية في واشنطن وبأماكن أخرى.

ما الدور الذي قد يلعبه الآخرون؟

في حال فشل الوصول إلى اتفاق يخص السد نفسه، فهناك حلول أخرى ممكنة، بإمكان القوى الخارجية مثل الولايات المتحدة، وأوروبا، ودول الخليج، مثل السعودية، أن تستخدمها في محاولتها حل الأزمة الكامنة.

وأشار سوليفان إلى أن إثيوبيا لديها كثير من موارد الطاقة المتجددة، خاصةً الطاقة الحرارية الأرضية، وهو ما يمكن أن يساعد دعمه عن طريق الاستثمار الخارجي في توفير الكهرباء وتلبية حاجة إثيوبيا إلى مزيد منها، دون اللجوء إلى مشروع الطاقة الكهرومائية المثير للجدل.

وبالمثل، قد يساعد الدعم المالي لمصر لبناء محطات تحلية مياه باهظة الثمن في تعزيز أمنها المائي، بالإضافة إلى تخفيف الآثار الناتجة عن التعديلات التي لا مفر منها، إذ تسعى الدولة لإدخال بعض الإصلاحات المؤلمة على الطريقة التي تستخدم بها المياه، التي تُستخدم الكمية الأكبر منها في الري الزراعي غير الفعال بغمر المحاصيل المتعطشة التي تكون زراعتها غير مناسبة في المناخ الصحراوي.

ولكن حتى الآن، كل الأعين متجهة نحو المرحلة التالية في المحادثات التقنية الجارية، لترى ما إذا كانت الدولتان، بجانب السودان، يمكنهما الوصول إلى حل يلبي رغبة إثيوبيا في ملء السد وتشغيله بأقرب فرصة، وفي الوقت نفسه يضمن أن مصر لن تواجه نقصاً في المياه يؤثر في توليد الطاقة لديها، أو تعطيل الزراعة على ضفاف النهر. إذ إن هذه المحادثات برغم كل ما فيها من مشاكسات، وخلافات شديدة على ضمان تدفق النهر، والشك في خطط الري طويلة المدى، والخوف الدائم من الجفاف، تبدو أفضل من الاستعراضات العسكرية الدورية التي كانت تشكل تهديداً بإشعال صراع مفتوح بين الدولتين.

وقد قال سولفيان: “آخر ما نريده هو أن تصطدم مصر بإثيوبيا”. وأضاف: “ستكون كارثة كُلية بالنسبة لكلتيهما”.

________________________________

(*) نقلاً عن موقع عربي بوست. الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي فورمينا

من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدام الكوكيز. المزيد من المعلومات

The cookie settings on this website are set to "allow cookies" to give you the best browsing experience possible. If you continue to use this website without changing your cookie settings or you click "Accept" below then you are consenting to this.

إغلاق