وصلت أزمة شرعية الرئيس عباس والسلطة الفلسطينية على المدى الطويل إلى مستويات جديدة، بعد تنديد ممثلي ثلاثمائة وخمسين موظفاً من القطاع العام والذين لم يتم دفع مستحقاتهم، وقد ندد الممثلين عنهم في رسالة لاذعة أرسلت إلى جامعة الدول العربية وممثلي الاتحاد الأوروبي و المجلس التشريعي الفلسطيني. وبعد اطلاع “فورمينا” على الرسالة، وجدت بأنها تنتقد استحواذ عباس الشخصي على السلطة، والتسلط المتزايد من قبل نظامه. وذكرت الرسالة:
“إن السلطة الفلسطينية – التي من المفترض أن تلتزم بالتحرير والدفاع عن شعبها – قد انضمت إلى صفوف مضطهدي فلسطين. الان السلطة الفلسطينية تنتهك القوانين، بدلاً من أن تضمن حقوق الفلسطينيين. وتدمر بشكل منهجي بدلا من أن تبني، مؤسسات الدولة الفلسطينية المستقبلية. وتخصص الأموال لأغراض سياسية خاصة بها، بدلاً من استخدامها لإنشاء حكومة ديمقراطية ومهنية خاضعة للمساءلة.
“إن السلطة الفلسطينية لا تصلح حالياً لتمثيل الشعب الفلسطيني، الذي ليس لديه ثقة أن نضاله وتضحياته سوف تؤدي إلى قيام دولة مستقلة وحرة في ظل هذه الإدارة.”
تدعي الرسالة أيضاً أن فشل السلطة الفلسطينية في دفع رواتب موظفيها – بما في ذلك الأطباء وموظفي الخدمة المدنية وأفراد الأمن – له دوافع سياسية تستهدف أولئك الذين ينتقدون سياسات عباس. ويأتي ذلك في سياق معارضة كبيرة من شخصيات داخل حركة فتح نفسها، والذين يتهمون عباس باللعب بالمال العام لتحقيق أهداف سياسية، ولتصفية حسابات شخصية. في ظل وجود حوالي مائة وخمسين ألف شخص على قائمة رواتب السلطة الفلسطينية، فإن القدرة على تبديل التدفق النقدي على نحو متقطع من خلال وسائل غير قانونية تعطي رئيس السلطة قوة قسرية كبيرة على قسم كبير من المواطنين الفلسطينيين.
وما يعزز هذه القوة هو نسب الإعالة العالية للغاية – بمتوسط أكثر من خمسة أشخاص، معظمهم من أفراد الأسرة، يعتمدون على كل موظف. بالتالي، فإن حوالي ألفين آخرين يواجهون فقرأ مدقعاً وشيكا وليس فقط الثلاثمائة والخمسين موظف أنفسهم. وتظهر شدة وضعهم في الدولة بالنظر إلى الاقتصاد الفلسطيني من منظور أوسع: فوفقاً لمعهد بحوث اقتصاد فلسطين، فإن ٣٨٪ من الفلسطينيين في الضفة الغربية و ٥٠٪ في قطاع غزة يعيشون تحت خط الفقر، بالإشارة إلى أرقام من برنامج الأغذية العالمي والتي تظهر أن نصف السكان يعانون من الفقر الغذائي عبر كل المناطق.
إن التهمة التي توجهها الرسالة أن الرئيس عباس قام باستغلال سيطرته على أموال المساعدات لإسكات المعارضين، وهذا ليست بمثابة صدمة لأي شخص مطلع على الأحداث الأخيرة، فمنذ فترة طويلة والرواتب وعائدات القطاع العام تستخدم كأداة سياسية، سواء في الصراع الداخلي بين فتح التي يتزعمها عباس وحماس أو في رفض إسرائيل المستمر للإفراج عن أموال الضرائب للسلطة الفلسطينية كعقاب على محاولة الأخير لوضع جرائم الحرب الإسرائيلية أمام الدولية المحكمة الجنائية.
ووفقاً للمعلومات التي حصلت عليها “فورمينا”، فإن الألاعيب من هذا القبيل السياسي لها نتيجة مثيرة للقلق: مع قلة فرص العمل الأخرى – وخاصة في قطاع غزة، حيث الحصار الإسرائيلي الغير القانوني طويل الأمد على الأرجح دمر الاقتصاد – فموظفي الخدمة المدنية وأفراد الأمن الذين تم حظر رواتبهم خلال السنوات الأخيرة ينضمون مجبرين بشكل متزايد إلى جماعات إسلامية متشددة متطرفة كوسيلة من أجل البقاء.
ومن بين هؤلاء الأفراد الذين تم استهدافهم لانتقادهم عباس وهم أعضاء من حماس ومن فتح ايضا- والذين يجب أن تظل أسمائهم سرية للحفاظ على سلامتهم وسلامة أسرهم – ما يلي:
“م.ق” من سكان مدينة غزة حي النصر الغربي، كان يعمل في المخابرات العامة، تم فصله من عمله، وإنتقل لاحقاً للعمل في كتائب القسام الجهاز العسكري لحركة حماس. انتقل عام ٢٠٠٩م للعمل في كتائب التوحيد والجهاد المتطرفة، وغادر غزة إلى سوريا للقتال إلى جانب جبهة النصرة ضد النظام السوري. قتل “م.ق” في ريف حلب في ديسمبر ٢٠١٢م.
“م. ط” من سكان غزة الشيخ رضوان، كان يعمل في قوات الأمن الوطني بالسلطة الفلسطينية، وتم فصله من عمله عام ٢٠٠٧م، إنتقل لاحقاً للعمل في كتائب القسام، ثم إنتقل عام ٢٠١٠م للعمل في كتائب التوحيد والجهاد المتطرفة .
“م.ن” ولد ١٩٨٥م من سكان مدينة غزة مخيم الشاطئ، كان يعمل في الشرطة الفلسطينية وتم فصله من عمله ثم إنتقل للعمل مرافقاً مع ممتاز دغمش قائد جيش الإسلام، قتل “م.ن” في نوفمبر ٢٠١٠م في قصف إسرائيلي لسيارته.
وسواء كانت العوامل التي تدفع الأفراد نحو الفصائل المتشددة المسلحة اقتصادية أم أيديولوجية. فان المهم ان القصص المذكورة أعلاه تسلط الضوء على مدى تدمير الاقتصاد الفلسطيني والحياة المدنية تحت المعوقات المتمثلة في ممارسات الفاسدين في السلطة الفلسطينية لخدمة مصالح ذاتية وانتهاكهم للقانون و من جهة أخرى الاحتلال الإسرائيلي . كما أن التسييس المتزايد للمال العام – الذي يأتي معظمه من خلال المساعدات الخارجية – يهدد بدفع الأراضي المحتلة نحو أزمة إنسانية وخطر بات بالفعل حقيقياً جداً
دولة محمود عباس البوليسية
تستشهد الرسالة بسلسلة من الانتهاكات الأخرى، بما في ذلك التجاهل الصارخ لحقوق الإنسان، وهيمنة السلطة التنفيذية الغير دستورية على السلطة القضائية والاعتقال التعسفي وحبس المعارضين والاستغلال الاستبدادي للسلطة من قبل عباس وحاشيته. يحث الموقعين على الرسالة أيضاُ الأمم المتحدة والحكومات الأجنبية للضغط على السلطة الفلسطينية لاجراء انتخابات، مع تفويض ديمقراطي بعد أن انتهت صلاحية الرئيس عباس منذ فترة طويلة .
مرة أخرى، لمن يراقب الوضع باستمرار، فإن مثل هذه الاتهامات ليست بالمفاجئة. في الواقع، وبعيداً عن كونها وسيلة للتحرر وتقرير المصير للفلسطينيين، فالسلطة الفلسطينية أصبحت وعلى نحو متزايد تمثل دولة بوليسية معادية لنشاط مواطنيها وحقوقهم الديمقراطية الأساسية باسم “الأمن”.
هذا القطاع – تقوده سياسة طويلة الأجل للتنسيق مع الجيش الإسرائيلي، الذي وصفه الرئيس عباس علناً بأنه “مقدس” – يستهلك نسبة كبيرة آخذة في التزايد تقدر بخمس عشرة مليار دولار أمريكي من أموال المساعدات الأجنبية الواردة مباشرة للسلطة الفلسطينية منذ اتفاقات أوسلو عام ١٩٩٣. ويعمل ٤٤٪ من ما يقارب مائة وخمسين ألف من موظفي السلطة الفلسطينية حالياً في مناصب في الشرطة أو ضباط استخبارات، مع فروع قسرية من سلطة الحكومة البالغة ٢٦٪ (مليار دولار أمريكي) من الميزانية السنوية للسلطة الفلسطينية – مقارنة فقط ب١٦٪ على التعليم، و ٩٪ على الصحة وانخفاض صادم على الزراعة بنسبة ١٪ وعلى الرغم من أهميته لاقتصاد فلسطين.
تبدو الاندفاعات الاستبدادية لهذه الدولة البوليسية حديثة النشأة الأكثر وضوحاً من خلال معاملة السلطة الفلسطينية للصحفيين. وفقاً لأحدث مؤشر حول حرية الصحافة لمراسلون بلا حدود تأتي الضفة الغربية وقطاع غزة – بضمها لحركة حماس أيضاً – في المركز ١٣٨ من أصل ١٨٠ دولة شملها الاستطلاع. بينما تأتي إسرائيل، “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، في المركز ٩٦.
في الواقع، مهما كانت الاختلافات الأخرى، فإن السلطة الفلسطينية وحماس والحكومة الإسرائيلية متحدون في قمعهم لحرية التعبير: فقد سجلت لجنة حماية الصحفيين ٥٠٠ انتهاك حرية للصحافة تم ارتكابها من قبل اثنين من الفصائل الفلسطينية بالإضافة إلى ٨٠٠ انتهاك من قبل إسرائيل في عام ٢٠١٣ فقط. وشملت هذه الانتهاكات الضرب والسجن دون محاكمة (ما تشير إسرائيل له باسم “الاعتقال الإداري”) واطلاق النار على الصحفيين في الرأس من مسافة قريبة بالرصاص المطاطي خلال مظاهرات سلمية.
شهدت أقسام تسيطر عليها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية في الأشهر الأخيرة، حوادث عديدة من هذا النوع, ففي نوفمبر الماضي اعتدت الشرطة الفلسطينية على محمد جرادات واعتقلته بشكل غير قانوني، وهو صحفي مستقل الذي كان مستهدفاً لتصويره وحشية الشرطة ضد المتظاهرين السلميين. وفي الشهر نفسه، نظمت نقابة الصحفيين الفلسطينيين مسيرة ضد انتهاكات حرية الصحافة والقمع الوحشي السابقين. وألقي القبض على اثنين من الصحفيين في سبتمبر بتهمة “التشهير بالسلطات” وهو الإعراب عن الآراء السياسية المخالفة لإملاءات عباس على مواقع وسائل الاعلام الاجتماعية.
إن استهداف الصحفيين هو جزء من حملة واسعة ووممنهجة من قبل السلطة الفلسطينية ضد حرية التجمع العام والتعبير. حيث ألقي القبض على ممثلي اتحاد الموظفين العموميين خلال الإضراب في نوفمبر من العام الماضي، بينما رد عباس على هذه الانتقادات بحظر نقابتهم. كما يتم استهداف ومهاجمة مظاهرات تنظمها أحزاب المعارضة الرسمية بانتظام، بالإضافة إلى أن عدداً متزايداً من الاحتجاجات الشعبية المخصصة ضد الفساد المتفشي في السلطة الفلسطينية وقيادتها الوحشية.
تعتبر الرسالة الأخيرة الموجهة إلى هيئات دولية رفيعة المستوى جديرة بالاهتمام ليس بسبب المخاوف التي تثيرها، ولكن بسبب قرار الموقعين عليها بتجاوز السلطة الفلسطينية تماماً في شكواهم والذي يشير إلى الدرجة التي وصل اليها عدد متزايد من الفلسطينيين من عدم شعورهم بأن نظام عباس لديه أي شيء ليقدمه لهم، أو حتى أي نية للاستجابة لمطالبهم المشروعة. وفي الواقع يرى الكثير من الفلسطينيين على نحو متزايد أن السلطة الفلسطينية ليست سوى سياسة إسرائيلية بوجه آخر. وكما وصفها أحد المتظاهرين بإيجاز: “لدينا الآن احتلالان – السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية”. وأكد تحليله على ما يبدو مما حدث خلال “عملية عامود السحاب”، حيث قمعت السلطة الفلسطينية الاحتجاجات باستخدام العنف بشكل روتيني في الضفة الغربية والتي خرجت تضامناً مع الفلسطينيين في غزة.
دور المعونة: السلام أو التهدئة؟
برر الموقعين على الرسالة بشكل كامل في بيانهم أن “أموال الدول المانحة للسلطة الفلسطينية هي، أولاً وقبل كل شيء لدعم الشعب الفلسطيني، وليس للرئيس أو لأجندته الشخصية”، ونطالب تلك الدول-الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في المقام الأول- فرض آليات تنظيمية أكثر صرامة.
ومع ذلك، فإن مجموعة متزايدة من المؤلفات الأكاديمية أضحت تشكك في دور وغرض المساعدات لفلسطين بشكل كامل: سواء من خلال سوء استخدام أو تصميم المكيافيلي، وهذا المال بالتالي لدعم التهدئة القسرية للشعب الفلسطينيي من خلال سلطة فلسطينية تعتمد على الخدمات والبضائع مقابل الدعم السياسي، بدلاً من بناء أي رؤية متماسكة للعدالة والسلام. في حين أنه إلى أي درجة يمكننا أن نعيد هذا الفشل للأجندات الخاصة بالدول المانحة أو لسياسة السلطة الفلسطينية، حيث بات هذا موضع نقاش، فمن الواضح أن استخدام المساعدات لخدمة مصالح الفلسطينيين وليس ضدهم سيتطلب إصلاحاً جذرياً، بدلاً من التعديلات التنظيمية.
إن الموازنة بين أموال المساعدات على وجه الخصوص يجب أن تتحول من كونها مجرد حلول مؤقتة إلى حلول استثمارية طويلة الأجل في سبيل التحسن الاقتصادي والمجتمع المدني والمؤسسات الديمقراطية. في حين أن الغالبية العظمى من الأموال الان تنفق على درء الأزمات المباشرة أو دفع فاتورة التدمير المنتظم الذي تقوم به إسرائيل للبنية التحتية الفلسطينية، وباستمرار ذلك لن يكون أي تقدم اجتماعي واقتصادي أو سياسي ذي معنى لفلسطين.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الطريقة التي تتم بواسطتها إدارة المساعدات توفر فرصة هائلة للفساد. فاحتكار صنع القرار من قبل النخب السياسية ورجال الأعمال والمنظمات غير الحكومية يجب أن يفسح المجال لنموذج لامركزي لقاعدة شعبية للتوزيع والتي تشمل الأكاديميين وممثلي المجتمع المدني والمنظمات المجتمعية المحلية المكرسة لتمكين الفلسطينيين وتعزيز نضالهم من أجل إقامة الدولة وتقرير المصير، بدلاً من مجرد ابقائهم تحت العوز والفقر تماماً.
وباختصار، إذا كانت أموال المساعدات تسعى لتحقيق الوعود للشعب الفلسطيني، فان السيطرة على أموال الدعم يجب ان يكون من قبل الفلسطينيين أنفسهم، وليس من قبل أي فئة سياسية داخلية لخدمة مصالح ذاتية, أو مصالح البلدان المانحة.