حروب الشبكات الاجتماعية في الشرق الأوسط تتصاعد

معركة العقول.. لماذا تكتسب حروب التضليل بمواقع التواصل الاجتماعي خطورة بالعالم العربي أكثر من غيره؟

 

العالم العربي من بين كل مناطق العالم تبدو حروب الشبكات الاجتماعية فيه أكثر تأثيراً وضراوة، كما تلقى اهتماماً خاصاً من الحكومات المحلية وكذلك العديد من القوى الإقليمية والخارجية. 

فلطالما كان الشرق الأوسط حافلاً بتناقضات العداء والتنافس، وقد بقيت أنظمته زمناً طويلاً تستغل ما يجمع المنطقة من روابط لغوية ودينية وثقافية عديدة للتحكم في صياغة البيئة السياسية للمنطقة تحكماً شاملاً، فهذه الأنظمة تعتقد أنها إن لم لا تتحكم في مساحة المعلومات المعروضة، فإنها لا بد واقعةٌ تحت خطر التدمير بواسطتها، حسبما ورد في تقرير لموقع  Brookings Institution  الأمريكي.

لماذا يعد الشرق الأوسط ساحة مشتعلة للحروب الإعلامية؟

رغم الاستبداد فإن الشرق الأوسط أبعد ما يكون عن العزلة. والواقع يشهد بأن كل الأنظمة الاستبدادية تغمر سكانها بسيل لا ينقطع من الدعاية لسياساتها، مستعينة بأدوات تبدأ من التلفزيون الرسمي الذي تسيطر عليه الدولة إلى حملات الدعاية عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تشمل طيفاً واسعاً من المنصات. 

ومع ذلك، فإن الشرق الأوسط قد يكون أشد قابلية من غيره لنفاذ التأثير الأجنبي إليه، فالإقليم لا يضطرم بالمنافسة الشديدة بين قواه فحسب، بل يزيد على ذلك الافتقار إلى وسائل الإعلام الحرة في معظم بلدانه وانعدام الثقة بالحكومات والمؤسسات، وكلها عوامل تجعل المنطقة أشد عرضة للتأثر بما يدور خارجها.

تعزَّز هذا التصور بما أجرته أيدي القوى الأجنبية في المنطقة من مكائد ومؤامرات فعلية على مدى تاريخها الحديث، سواء أكان انقلاب عام 1953 الذي أطاح برئيس الوزراء الإيراني المنتخب محمد مصدق، أم كانت الحجج المزيفة التي تذرَّعت بها تلك القوى في حرب 1956 على مصر، أو غيرها مما شهده الإقليم من محاولات لا تحصى لأنظمته لإضعاف بعضها بعضاً وإسقاط بعضها الآخر. 

بالإضافة إلى ذلك، فإن الروابط الدينية والتاريخية واللغوية المشتركة، متجسدةً في مفاهيم عديدة مثل “الوحدة العربية” و”الجامعة الإسلامية”، تخلق روابط عابرة للحدود الوطنية وتشحذ مكامن التأثر بين دول المنطقة وتزيدها حدة. وليس أسهل على الأفكار من عبور الحدود، وهي ما إن تفعل ذلك، حتى تكتسب القدرة على الإلهام أو الترويع أو حتى التخريب.

والآن وسائل التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط تحل محل الإعلام

أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي الآن أداةً في متناول أنظمة الشرق الأوسط، وتستخدمها أيضاً حكومات أجنبية، مثل روسيا، في سعيها لفرض نفوذها في الشرق الأوسط. 

وأحد الأمثلة البارزة على ذلك في السنوات الأخيرة، كانت المواجهة التي بدأت في عام 2017 بين البحرين ومصر والسعودية والإمارات (ما يسمى بـ”رباعي الحصار”) من جانب وقطر من الجانب الآخر، وتضمنت استغلال وسائل التواصل الاجتماعي واختراق حسابات البريد الإلكتروني ونشر المعلومات المضللة، ثم تصاعدت إلى مناوشات ضخمة على وسائل التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وهي مناوشات مستمرة حتى يومنا هذا.

اشتملت هذه الحملة لاحقاً على مساعٍ لتشويه سمعة حليف قطر، تركيا، وتضمنت جهات فاعلة في الحروب الأهلية في ليبيا واليمن أيضاً. 

إيران تنشئ شبكة للحسابات المزيفة والسعودية تجند الذباب الإلكتروني

وقد أنشأت إيران شبكة من المواقع الإلكترونية المزيفة والحسابات المزورة على الإنترنت، في عملية أطلقَ عليها مختبر “سيتيزن لاب” الكندي المتخصص في مراقبة أمن الإنترنت، اسم “إندليس مايفلاي” Endless Mayfly، لنشر معلومات كاذبة عن السعودية وإسرائيل والولايات المتحدة. 

كما استغلت السعودية هذه الأدوات لاستهداف معارضين مثل جمال خاشقجي، وحاولت أن تجعل حياته جحيماً من خلالها، حسب تعبير تقرير موقع Brookings Institution.

وخلال الشهور التي قضاها في منفاه الاختياري بالولايات المتحدة قبيل اغتياله، كان جمال خاشقجي يشكو لمن حوله من أصدقائه، من آلاف التعليقات والرسائل المحتوية على شتائم وألفاظ بذيئة يتلقّاها على هاتفه الجوال، مستفتحاً بها صباحه كل يوم.

لم تكن تلك الرسائل البذيئة صادرة عن أشخاص معروفي الهوية، بل كانت تصل إليه من حسابات بأسماء وهمية على موقع تويتر، وهذه ظاهرة انتشرت في السنوات الأخيرة بالعديد من الدول لأغراض مختلفة.

أما في السعودية، فقد اشتهرت هذه الظاهرة باسم “الذباب الإلكتروني”، ومن مهام هذا الجيش التشويش على الهاشتاغات المعارضة للحكومة السعودية، بالإضافة إلى تهديد وإهانة وترهيب كل من يعارض أو ينتقد سياسات السلطة السعودية، تماماً كما كان يحصل مع جمال خاشقجي.

هذا الأذى الذي كان خاشقجي يتعرض له يومياً، هو ما دفعه للتفاعل بشكل إيجابي مع فكرة عرضها عليه صديقه عمر عبد العزيز، المعارض السعودي المقيم في مونتريال بكندا.

والفكرة عبارة عن مبادرة لإنشاء جيش “النحل الإلكتروني”، الذي ستكون مهمّته مقاومة بذاءة وترهيب وتضليل “الذباب الإلكتروني” بأسلوب عقلاني وأخلاقي، كما أوضح عمر عبد العزيز، بالإضافة إلى محاولة توحيد جهود المعارضين الإصلاحيين والحقوقيين ذوي التوجّهات المختلفة. هذا هو إذن النحل الذي وصفه جمال خاشقجي بأنه يعشق وطنه ويذود عنه.

وظهر عمر عبد العزيز في لقاء مع شبكة CNN الإخبارية، تحدث فيه عن دعم جمال خاشقجي مبادرة “النحل الإلكتروني”، حيث قام خاشقجي بتحويل مبلغ مالي إلى عبد العزيز (5 آلاف دولار)، من أجل شراء شرائح هاتف كندية (SIM Cards) وإرسالها إلى الراغبين في التطوع والعمل معهم من داخل السعودية.

والهدف من ذلك هو حماية المتطوعين مع جيش “النحل الإلكتروني” من الأذى الذي قد يتعرضون له من قِبل السلطات السعودية، التي تفرض بدورها رقابة مشددة على جميع الشرائح الهاتفية التابعة لشركات الاتصالات السعودية.

هذا التعاون بين خاشقجي وعمر شكّل قلقاً للحكومة السعودية، ما دعاها إلى محاولة استدراج عمر إلى السعودية، لكنه رفض العرض الذي قُدِّم له، بالإضافة إلى أن كثيراً من المحللين والمتابعين لقضية خاشقجي باتوا يعتقدون أن تعاونهما كان أحد أهم الأسباب التي دفعت السلطات السعودية لاستدراج خاشقجي إلى إسطنبول وتصفيته.

لماذا أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أداة فعالة بالنسبة لأنظمة المنطقة؟

تقدم وسائل التواصل الاجتماعي للأنظمة مزايا عديدة في تدابيرها لفرض السيطرة الشاملة على المعلومات. والأهم من ذلك، أن حملات وسائل التواصل الاجتماعي يسيرة التكلفة وسهلة الانتشار. ولما كان كثير من سكان الشرق الأوسط يستخدمون بالفعل وسائل التواصل الاجتماعي، فإن التلاعب بهذه المنصات وسيلة رخيصة الثمن لدى الأنظمة في مساعيها للتأثير في أعداد غفيرة من الجماهير. علاوة على ذلك، فإن تدابير الحماية التي تفرضها وسائل التواصل الاجتماعي أضعف بكثير خارج أوساط اللغة الإنجليزية، ففي هذه السياقات يشتد التركيز على الربحية والابتكار قبل الأمان وجودة المعلومات.

وتمنح هذه الوسائل للمُسيطرين عليها ميزة أخرى، هي “الكثافة”، فالغالب أن الناس يصدقون الشائعات والحديث عن المؤامرات إذا تعرضوا لها مراراً وتكراراً، والدفع المستمر بالمعلومات المضللة على منصات متعددة كثيراً ما يجعل أشد الأشياء غرابة قابلاً للتصديق.

كما يُتيح توجيه الحملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي منافذ عديدة لإنكار المسؤولية، فبعض الدول تستعيض بتمويل بعض الشركات الخاصة سراً، أو تحث مواطنيها على شن هذه الحملات بمفردهم، أو تغض الطرف عن أنشطة القرصنة والمضايقات، وكلها وسائل تجعل من الصعوبة بمكان الإمساك بطرف يربط الحكومة بعمل معين.

تستمد وسائل التواصل الاجتماعي أفضلية أخرى لنفسها من واقع أن الناس عادةً ما يرونها أوثق إليهم من وسائل الإعلام التقليدية. فهذه المنصات تنقل أخبار الأصدقاء والعائلة، ومن ثم فإن استعانة الحكومات بهذه الشبكات الشخصيات أجدر بأن يجعل رسائلها أقرب إلى التصديق والدعم.

وفي نهاية الأمر، فإن وسائل التواصل الاجتماعي تقدم مزيجاً فعالاً من التنوع وسهولة الوصول. فالمنصات العملاقة، مثل تويتر ويوتيوب وإنستغرام، أدوات رائعة للوصول إلى النخبة السعودية المعنية بالشؤون السياسية، وهي في الوقت نفسه أداة يستخدمها السعوديون العاديون في متابعة أخبار الرياضة والعمل والترفيه.

أساليب التضليل في حروب الشبكات الاجتماعية بالمنطقة

تستخدم حملات التضليل والدول التي تقف وراءها أدوات عديدة لمضاعفة التأثير الذي تبلغه وسائل التواصل الاجتماعي في الجمهور المستهدف. ويتضمن ذلك إنشاء مواقع إخبارية مزيفة، وتحريف محتوى المواقع الشرعية، واختلاق شخصيات مزيفة تتنكر في هيئة صحفيين أو شخصيات معارضة، و”الاستيلاء على الروابط الإلكترونية بالأخطاء الإملائية” typosquatting  التي تستغل الأخطاء الشائعة في كتابة أسماء المواقع الإلكترونية لتوجيه المستخدم لمواقع أخرى (مثل thejerusalempost[dot]org، في حين أن اسم الموقع الحقيقي هو jpost.com)، بالإضافة إلى الاستعانة بالوسائل التي تتيح نشراً كثيفاً للمعلومات المضللة، مثل الحسابات المزيفة (البوتات) والكتائب الإلكترونية لإعادة نشر التغريدات، و”الإعجابات”، وهو ما يُتيح صرف الأنظار عن الأصوات المنتقدة وتعزيز المحتوى المؤيد للنظام.

إحدى الوسائل الأخرى لشن حملات التضليل هي الاختراق أو الوصول إلى المعلومات الخاصة بالخصوم، ثم نشرها نشراً انتقائياً. ومثال ذلك، ما وقع في يونيو/حزيران 2017، قبل أيام من إعلان دول المقاطعة الرباعية حصارها لقطر، إذا أرسلت مجموعة تُدعى “غلوبال ليكس” نسخاً من رسائل البريد الإلكتروني وغيرها من الوثائق المخترقة الخاصة بسفير الإمارات في الولايات المتحدة إلى العديد من وسائل الإعلام الأمريكية.

وفي بعض الأحيان، يكون الهدف (أو النتيجة على الأقل) هو تشكيك المواطن في كل المعلومات المعروضة عليه، ومن ثم يتجاهل جميع مصادر الأخبار أو يفقد الثقة بكل المؤسسات التقليدية.

من جهة أخرى، تتباين قدرات الجهات الحكومية ووسائلها لنشر المعلومات المضللة تبايناً كبيراً، فكثير من الحكومات توظِّف شركات خارجية لإدارة بعض من حملاتها، ودول أخرى، مثل السعودية، أنشأت “مزرعة متصيدين إلكترونية”   Troll farm  لتكثيف الرسائل التي تريد نشرها، وتحديد الأصوات المعارضة على موقع تويتر وتوجيه الحملات لإسكاتها. وكان المشاركون في هذه الحملات يتلقون قوائم يومية بأسماء الأشخاص الذين ينبغي استهدافهم بحملات التهديد والإهانات، والرسائل الحكومية التي يجب نشرها، وغيرها من التعليمات.

ما مدى فاعلية حملات التضليل هذه وتأثيرها؟

يصعب الحكم بدقة على مدى تأثير هذه الحملات وفاعليتها، فقد كانت حملة وسائل التواصل الاجتماعي التي شنتها دول الحصار على قطر نتيجةً لهذه المواجهة وليست السبب فيها.

ومع أن إيران نجحت في نشر دعايتها وزيادة عدد التغريدات المروِّجة لرسائلها، حتى إن تقديرات “سيتزين لاب” تشير إلى أن إيران حصدت 21685 نقرة على المحتوى الذي نشرته في العملية “إندليس مايفلاي”، غير أنه لم يتضح ما إذا كانت هذه الآراء قد أحدثت تأثيراً بالفعل، ومن الذي تأثر بها حقاً.

روسيا تتفوق

يقول كلينت واتس، وهو خبير في حملات التضليل الإلكترونية والأمن السيبراني، إنه من حسن الحظ أن أنظمة الشرق الأوسط أضعف من روسيا فيما يتعلق بالتضليل الإعلامي.

فإيران على سبيل المثال، غالباً ما “تتعجل تنفيذ عملياتها” المعادية لأمريكا قبل أن يكتمل الإعداد اللازم.

والسعودية نجحت في تحويل حياة خاشقجي إلى جحيم، لكن هذا لم يردعه، ما دفع النظام إلى اللجوء إلى خيار الاغتيال المباشر لتوفير الوقت، حسب الموقع الأمريكي.

وأشارت الباحثتان جينيفر بان وألكسندرا سيجل في دراسة لهما إلى أن سجن النظام السعودي للمعارضين الإلكترونيين واستعانته بوسائل القمع الأخرى نجح في ردع النقاد، لكنها في الوقت نفسه أدت إلى زيادة الاهتمام بقضايا هؤلاء المعتقلين وحشد المعارضة عبر الإنترنت من أنصارهم.

كيف يمكن التصدي لحملات التضليل الإلكترونية؟

يقول تقرير موقع Brookings Institution ” ينبغي على كل من الحكومات الديمقراطية والشركات المالكة لمواقع التواصل الاجتماعي ومنظمات المجتمع المدني أن تتعاون في التصدي لهذه الحملات. ويملك القطاع الخاص خبرات فنية ومعرفة بالوسائل المستخدمة في هذه العمليات، ومن ثم يجب أن تتحرك الحكومات للاعتماد على الخبراء في هذا القطاع والتنسيق معهم.

أما عن الشركات المالكة لوسائل التواصل الاجتماعي، فعليها تحسين قدراتها على حماية الحسابات الشخصية والمعلومات الخاصة بالمعارضين، وكذلك المستخدمين العاديين الذين قد تخدعهم المعلومات الكاذبة والمضللة. ويجب على هذه الشركات زيادة الأفراد والموارد المخصصة لمكافحة المعلومات المضللة والتصدي للجهات الفاعلة والحكومات التي تنتهك شروط الخدمة الخاصة بها، كما يتعين أن تكون الشركات أكثر انفتاحاً على كشف بياناتها، حتى يتمكن الباحثون المستقلون من مراقبة حملات التضليل وأنشطة الاختراق مراقبة فعالة.

________________________________

 (*) نقلاً عن موقع عربي بوست. الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي فورمينا

من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدام الكوكيز. المزيد من المعلومات

The cookie settings on this website are set to "allow cookies" to give you the best browsing experience possible. If you continue to use this website without changing your cookie settings or you click "Accept" below then you are consenting to this.

إغلاق