هكذا هيمنت تونس على أوروبا

هل تعلم أن أصل كلمتي الشلن shilling والبنس pence، التي تستخدم في بريطانيا وأستراليا هو كلماتٌ قرطاجية انطلقت من تونس قبل آلاف السنين؟

 

حكمت قرطاج البحر الأبيض المتوسط باعتبارها جوهرة ساحل شمال إفريقيا، إذ تأسَّست في العام 814 قبل الميلاد من قبل الملكة الفينيقية الأسطورية أليسار، التي هربت من مدينة صور في لبنان حالياً.

توسّعت رقعة قرطاج بعد تدفق اللاجئين من مدينة صور، إثر فتوحات الإسكندر الأكبر عام 332 قبل الميلاد، حتى أصبحت مقر الإمبراطورية القرطاجية مع مستعمرات (مثل صبراتة) على طول ساحل شمال إفريقيا، وصقلية وإسبانيا وأماكن أخرى.

بحث جديد حول هذه المملكة المثيرة توصّل إلى أن الكلمات المستخدمة للإشارة لبعض القطع النقدية البريطانية وغيرها من العناصر والمفاهيم المهمة ثقافياً جاءت نتيجة الاتصال الوثيق بين الجرمانيين الأوائل والإمبراطورية القرطاجية منذ أكثر من 2000 عام.

تأسست مدينة قرطاج، في تونس حالياً، في القرن التاسع قبل الميلاد على يد الفينيقيين. وسيطرت الإمبراطورية القرطاجية على منطقة النفوذ الفينيقي، وامتدت من البحر المتوسط شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً وإفريقيا جنوباً. وقد لحق الدمار بالإمبراطورية القرطاجية عام 146 قبل الميلاد، بعد صراع ملحمي مع الرومان.

وتوجد الكثير من الوثائق التي تثبت وجود القرطاجيين في شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال وأندورا ومنطقة جبل طارق حالياً)، ويشيع الافتراض بوجود علاقات تجارية مع الجزر البريطانية. 

ومن خلال دراسة أصل بعض الكلمات الجرمانية الرئيسية، وأجزاء أخرى من اللغات الجرمانية، اكتشفت أنا وثيو فينيمان آثاراً لهذا الوجود المادي، وهو ما ألقى الضوء على تأثير هذه القوة العظمى السامية في شمال أوروبا، بحسب ما نشر موقع The Conversation.

التاريخ اللغوي

يمكن للغة أن تكون مصدراً رئيسياً للمعرفة التاريخية. فبإمكان الكلمات أن تروي قصصاً عن المتحدثين بها، حتى في غياب دليل مادي من علم الآثار أو علم الوراثة عليها. 

إذ إن العديد من الكلمات اللاتينية الأولى في اللغة الإنجليزية، مثل “street” و”wine” و”wall”، لَهي دليل على تأثير الحضارة الرومانية.

كانت البونيقية لغة القرطاجيين، وهي لغة سامية شديدة الشبه بالعبرية. 

ولكن لسوء الحظ، لا يوجد سوى عدد قليل من النصوص المتبقية المكتوبة باللغة البونيقية، ولذا غالباً ما تستخدم العبرية التوراتية بدلاً منها.

وكانت اللغة الجرمانية البدائية مستخدمةً فيما يُعرف الآن بشمال ألمانيا وجنوب الدول الاسكندنافية، منذ أكثر من 2000 عام، وانحدرت منها اللغات الجرمانية المعاصرة مثل الإنجليزية والألمانية والنرويجية والهولندية.

كلماتٌ قرطاجية

وتروي آثار اللغة البونيقية في اللغات الجرمانية البدائية قصة مثيرة.

الكلمتان “shilling” و“penny”: عثر على كلتا الكلمتين في اللغة الجرمانية البدائية. 

ويُشار إلى أنه لم يكن لدى الجرمانيين الأوائل عملات معدنية خاصة بهم، ولكن من المحتمل أنهم عرفوها إذا كانوا يستخدمون كلمات للإشارة إليها.

في العصور القديمة، كانت العملات المعدنية مستخدمة في منطقة البحر المتوسط. 

وكان الشيكل shekel أحد العملات الرئيسية المستخدمة في قرطاج، وهو الاسم الحالي للعملة الإسرائيلية. 

ويبدو أنه الأصل التاريخي لكلمة “shilling” بسبب الطريقة التي كان ينطق بها القرطاجيون كلمة “shekel”، وهي تختلف عن الطريقة التي تُنطق بها في العبرية.

ويمكن الاستدلال على نطق اللغة البونيقية بدرجة كبيرة من التهجئة اليونانية واللاتينية، حيث إن أصوات الحروف اليونانية واللاتينية معروفة جيداً. 

وفي اللغة البونيقية، توجد شدة على المقطع الثاني لكلمة shekel، وينطق حرف الـ “s”في بداية الكلمة بصوت “س”، وليس صوت “ش” المستخدم في العبرية.

ولكن بالنسبة للمتحدثين بالجرمانية البدائية -الذين يضعون الشدة عادةً على المقطع الأول من الكلمات- فكانت تُنطق مثل “skel”. 

وهكذا بالضبط يتشكل الجزء الأول المهم من كلمة “Shilling”. أما الجزء الثاني -ling، فهو بلا شك جرماني. وأُضيف للتعبير عن معنى متفرد، كما هو الحال في كلمة silbarling الألمانية القديمة، التي تعني حرفياً “قطعة من الفضة”.

ويُظهر هذا الجمع بين لغتين في كلمة واحدة، أن الجرمانيين الأوائل كانوا على دراية بالبونيقية.

وبالمثل، فإن كلمة “penny” مشتقة من الكلمة البونيقية panē، التي تعني “وجه”. 

وكانت العملات المعدنية البونيقية تُسك بوجه الإلهة تانيت، لذلك فإن كلمة panē هي على الأرجح اسم لعملة قرطاجية.

هيمنة ثقافية واجتماعية

قد يشير تبادل أسماء العملات المعدنية إلى وجود علاقات تجارية. وتشير كلمات أخرى إلى أن القرطاجيين والجرمانيين الأوائل كانوا على علاقة أوثق بكثير.

ومن خلال دراسة الكلمات المستعارة بين البونيقية والجرمانية البدائية، يمكننا أن نستنتج أن القرطاجيين كانوا يتمتعون بالهيمنة الثقافية والاجتماعية.

وكانت التكنولوجيا الزراعية من المجالات التي كانت تتمتع فيها قرطاج بالريادة. 

ويتتبع بحثنا كلمة plough “المحراث”، إلى جذر فعل بونيقي يعني “يُقسِّم”. والأهم من ذلك أن المتحدثين باللغة الجرمانية البدائية كانوا يستخدمون كلمة “plough” للإشارة إلى نوع من المحراث أكثر تقدماً من المحراث الحيواني.

ووجود علاقة وثيقة تربط المتحدثين بالجرمانية البدائية بالقرطاجيين لها أن توضح السبب وراء معرفتهم بهذه الأداة المبتكرة.

والكلمات المستخدمة في الجرمانية القديمة والإنجليزية القديمة للإشارة إلى النبلاء، كلمة æþele على سبيل المثال، هي أيضاً كلمات بونيقية مستعارة على الأرجح. 

وإذا جاءت كلمة تشير إلى الطبقة الحاكمة من لغة أخرى، فهذا مؤشر قوي على أن الأشخاص الذين يتحدثون هذه اللغة كانوا يتمتعون بالهيمنة الاجتماعية.

التداخل بين اللغة والثقافة

كما تبيّن أن اللغة البونيقية أثرت بشدة على قواعد اللغة الجرمانية البدائية، والأساطير الجرمانية والأبجدية الرونية المستخدمة في النقوش باللغات الجرمانية، حتى العصور الوسطى.

وتشير هذه الأدلة الجديدة إلى أن العديد من الجرمانيين الأوائل تعلموا اللغة البونيقية وعملوا لدى القرطاجيين، وتزوجوا من عائلاتهم، وأنجبوا أبناءً مزدوجي اللغة والثقافة.

وحين دُمّرت قرطاج بالكامل سنة 146 قبل الميلاد بعدما أحرقها الرومان، انقطع هذا الاتصال في النهاية. لكن آثار هذه القوة العظمى السامية لا تزال حاضرة في اللغات الجرمانية الحديثة وثقافتها وحروفها القديمة.

________________________________

(*) نقلاً عن موقع عربي بوست. الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي فورمينا

من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدام الكوكيز. المزيد من المعلومات

The cookie settings on this website are set to "allow cookies" to give you the best browsing experience possible. If you continue to use this website without changing your cookie settings or you click "Accept" below then you are consenting to this.

إغلاق