اعتصامات الكرد الأسبوعية…من “أمهات السبت” إلى “روبوسكي”

إحياءً للذاكرة الجماعية، تتجمع “أمهات السبت” في شارع الاستقلال بمدينة اسطنبول عند الساعة الثانية عشرة ظهراً من كل سبت، يحملن الورود الحمراء وصور الأحبة الغائبين وتساؤلاتٍ حول مصيرهم لم تلقٓ جواباً منذ نحو عقدين من الزمن، يهدينهم رسائل وأشعار ثم يكملن وقفتهن بصمت. “أمهات السبت” هي مجموعة من أمهات وعائلات نحو ألف كردي وكردية ممن تعرضوا للإخفاء القسري والجرائم السياسية على يد السلطات التركية في فترة الثمانينات والتسعينات خلال الانقلاب العسكري، نفذت اعتصاماً للأسبوع ٥٢٥ السبت الماضي للمطالبة بتحقيق العدالة وكشف مصير أبنائهن وبناتهن ومحاسبة المتورطين.

اعتصمت المجموعة لأول مرة في ٢٧ من أيار عام ١٩٩٥ لدى اعتقال شخص يدعى حسن أوجاك واختفائه في السجون التركية. وبعد أسابيع من مسائلة الشرطة عن مكانه والمطالبة بإطلاق سراحه، تم العثور على جثته في مقبرة المجهولين، وكانت واضحةً عليها علامات التعذيب. واستمرت “أمهات السبت” بالاعتصام للمطالبة بكشف مصير مئات المفقودين، إلا أن تعرضهن للقمع العنيف من قبل الشرطة التركية دفعهن إلى تعليق الاعتصام في ١٣ من آذار عام ١٩٩٩ مع تسجيل الأسبوع ال ٢٠٠، ليعدن إلى الاعتصام مجدداً بعد مضيّ عشر سنوات في ٣١ من كانون الثاني عام ٢٠٠٩.

شهدت تركيا موجاتٍ ممنهجة من القمع والاعتقال والتعذيب، خاصة بحق الشخصيات اليسارية مع بداية الانقلاب العسكري عام ١٩٨٠ وصلت أوجها في بداية التسعينات مع ازدياد قوة وحزب العمال الكردستاني وانضمام الآلاف من الكرد لصفوفه من أجل مواجهة إرهاب وعنف السلطة عبر النضال المسلح. ورداً على ذلك، زادت السلطات من بطشها وشنت حملة اقتحامات واعتقالات دموية في المناطق الكردية في جنوب شرق البلاد لقمع الكرد، بدأ خلالها المئات من الأشخاص بالاختفاء إما أثناء وجودهم رهن الإعتقال أو بواسطة التعذيب حتى الموت.

وتطالب “أمهات السبت” بالحصول على معلومات موثقة والكشف عن مصير أبنائهن وبناتهن واسترجاع رفاة من قضى منهم من أجل دفنها وتحديد المسؤولين المتورطين في ممارسات الدولة الظالمة ومحاكمتهم ووضع حد لحصانتهم. كما يطالبن بفتح السجلات التابعة للدولة أمام العامة من أجل الإضاءة على الجرائم السياسية التي تم تنفيذها برعاية السلطات التركية وإجراء تعديلات على قانون العقوبات التركي وعدم تطبيق قانون الإسقاط بالتقادم على ملفات الجرائم السياسية وحالات الاختفاء القسري، إضافة إلى المطالبة بتوقيع تركيا على الإتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري. ومؤخراً، نادت المجموعة أيضاً بوضع تلك المطالب على لائحة المفاوضات التي تجريها الحكومة التركية مع حزب العمال الكردستاني.

بعد أسابيع قليلة على مباشرة “أمهات السبت” بالاعتصام عام ١٩٩٥، بدأت منظمة العفو الدولية بنشر تقارير لها حول المجموعة، وفي ١٩٩٦ عقدت مؤتمراً في اسطنبول بهدف الضغط على الحكومة من أجل تشكيل لجنة بحوث حقوق الانسان في البرلمان التركي، وهو ما حصل فعلاً، إلا أن اللجنة اكتفت بإصدار بيانات مقتضبة تنكر فيها أختفاء أي شخص أثناء الإعتقال لدى الشرطة التركية. وبعد سنوات طويلة من الصمت والتجاهل، أتيحت لعدد من الأمهات في نيسان عام ٢٠١١ لأول مرة فرصة الاجتماع مع أعضاء من اللجنة والاستماع إلى مطالبهن.

نضال “أمهات السبت” من أجل تحقيق العدالة كانت له ضريبته أيضاً، إذ تعرضن بدورهن للقمع والضرب والاعتقال من قبل السلطات التركية. واليوم، لا تزال الاعتصامات تجري تحت أعين الشرطة. ولا تزال الأمهات تبذلن جهوداً كبيرة بهدف المحافظة على ضحايا الاختفاء القسري في الذاكرة الجماعية. ومع غياب أي نصب تذكاري أو تمثال أو متحف لتخليد ذكرى المختفين، أصبحت “أمهات السبت” بمثابة إحياء حيّ ومتنقل للذكرى. وعلى الرغم من أنه لم يتم محاسبة أو محاكمة أي مسؤول عن جرائم الاختفاء القسري، إلا أن “أمهات السبت” نجحن في الحد من تلك الجرائم.

وفي المقلب الآخر من البلاد، تحديداً في قرية روبوسكي بولاية شيرناك على الحدود الشرقية، اعتصمت العائلات الكردية للأسبوع ١٧٢ على التوالي للمطالبة بإحقاق العدالة في مجزرة روبوسكي. اتشحت العائلات بالسواد وحملت صور ضحاياها ثم سارت حتى مقبرة القرية حيث تلت الصلاة على أرواح أبنائها.

ففي ٢٨ من كانون الأول عام ٢٠١١، شنت طائرتان تابعتان لسلاح الجو التركي سلسلة غارات على قافلة مؤلفة من ٣٨ شخصاً كانت تعبر المناطق الجبلية في القرية، أدت إلى مقتل ٣٤ منهم. وجاءت تلك الغارات عقب معلومات استخباراتية وصور قامت بالتقاطها طائرة أمريكية بدون طيار وأخرى تركية ذات صناعية إسرائيلية، تفيد بأن مجموعة مسلحة من حزب العمال الكردستاني تعبر الحدود نحو الأراضي التركية، ليتبين لاحقاً أن المجموعة تضم عدداً من القرويين الكرد ولا مسلحين بينهم. أبناء القرية الفقراء اعتادوا على العيش من التهريب على مرأى ومسمع من القوات العسكرية على الحدود منذ زمن طويل، حيث أن المناطق الحدودية الكردية مهمشة بشكل كبير وتفتقر إلى المشاريع الإنمائية وفرص العمل، كما أن العائلات تسكن على طرفيّ الحدود التركية والعراقية. وفي تلك الليلة، كانت مجموعة منهم تقوم بتهريب السجائر والديزل بين الأراضي التركية والعراقية في رحلة تستغرق أقل من ثلاث ساعات ذهاباً وإياباً. وكان ٢٨ من الضحايا الذين سقطوا من عائلة واحدة هي عائلة إنجو و ١٩ منهم أطفالاً، إذ كان الأطفال ينضمون إلى آبائهم وإخوانهم للعمل خلال العطل المدرسية.

في كانون ثاني عام ٢٠١٢، أي بعد شهرٍ على المجزرة، تم تشكيل لجنة برلمانية خاصة للتحقيق بها، أصدرت تقريراً في آذار ٢٠١٣ توصلت فيه إلى أن المجزرة وقعت بسبب غياب التنسيق بين المسؤولين العسكريين والسلطات المحلية، وأن القتل حصل عن طريق الخطأ. التقرير لم يلقِ بالمسؤولية على أية جهة ولم يتهم أي مسؤول. وبعد ١٨ شهراً على التحقيقات، توصلت النيابة العامة إلى النتيجة ذاتها بعدم وجود نية مقصودة باللقتل من قبل القوات الجوية، وأن المجزرة سببها الإهمال. بعد ذلك تم تحويل الملف إلى المحكمة العسكرية، التي قررت في كانون الثاني ٢٠١٤ عدم توجيه التهم إلى أي مسؤول.

رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان قال تعليقاً على الحادث: “الطائرتان أغارتا على أبناء القرية للاعتقاد بأنهم مجموعة من الإرهابيين. وقد كانت تلك المنطقة بالفعل إرهابية وتم دفع التعويض لعائلات الضحايا. لا حاجة إلى تضخيم الأمر”. إلا أن عائلات الضحايا رفضت التعويض الذي قدمته الحكومة وشددت على ضرورة تحقيق العدالة أولاً. ولا تزال العائلات حتى اليوم تطالب الحكومة بالاعتذار ومحاكمة القتلة ورفع الحصانة عن الجناة ومحاسبة من أصدروا الأمر بالقتل ومن نفذوه، مع استمرار الدولة بالتستر على أسماء الجناة.

فرح رويساتي

محررة ومترجمة وكاتبة مستقلة مقيمة بين لبنان وتركيا. حائزة على شهادة بكالوريوس في مجال التواصل من كلية الإعلام والتوثيق، الجامعة اللبنانية في بيروت

من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدام الكوكيز. المزيد من المعلومات

The cookie settings on this website are set to "allow cookies" to give you the best browsing experience possible. If you continue to use this website without changing your cookie settings or you click "Accept" below then you are consenting to this.

إغلاق