ذكرنا الظهور الأخير لرئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل، قبل أن يغادر موقعه وهو يعلن الوثيقة السياسية الجديدة لحركته، بقيادة منظمة التحرير وحركة فتح عام 1988يوم أن أعلنت استقلال فلسطين مع أن فلسطين مازالت حتى اليوم محتلة.
لكنه كان إعلانا عن تحول جذري في مسار المنظمة من خلال القبول بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران والقبول ضمنا بقرار 242 الذي يعني الاعتراف بحق إسرائيل بالوجود بعد عقود طويلة من رفض فلسطيني لقرارات الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين .
نفت قيادة المنظمة في حينه أن تكون قد تخلت عن مسارها التاريخي أو أنها تنازلت عن فلسطين التاريخية، لكن الحقيقة أن ذلك الإعلان كان بحثا عن الشرعية لدى الدول الكبرى وأيضا القبول من كيان الاحتلال وكان أيضا ثمنا دفعته منظمة التحرير مقابل الحصول على “الشرعية”، وبعد عامين كانت المنظمة تشارك في مدريد ومؤتمرها وفِي عام 1993 كانت توقع إتفاق أوسلو، والبقية معلومة .
تقول حماس اليوم إنها تقبل بدولة فلسطينية على حدود عام 1967 وأن هذا لا يعني الاعتراف بإسرائيل، لكن حماس لم تقل كيف ستأتي هذه الدولة دون تفاوض وبخاصة أنها تعلم أن الحرب ليست خيار أحد، وأن القبول بدولة في أرض الضفة يعني التعامل مع كيان الاحتلال.
وتقول حماس أيضا أنها ترفض التفاوض المباشر، أي تقبل غير المباشر أو يفاوض فلسطينيون آخرون دون أن تلوث نفسها بالتفاوض، لكنها في النهاية تقبل فكره التفاوض .
العبارات المبهمة والغامضة والتي تقبل أكثر من تفسير هي أول الطريق الذي سلكته حركة فتح قبل ثلاثين عاما، وتعيد إنتاجه حماس اليوم.
لكن المسار معلوم، والغاية واضحة وهي فتح الأبواب أمام قبول العالم بحماس تماما مثلما فعلت منظمة التحرير التي سعت لاعتراف العالم وقبول إسرائيل بها وحصلت على ذلك لكن بعدما غيرت كل برنامجها السياسي وتخلت عن الكفاح المسلح.
وعلينا أن لا ننسى أن حماس اليوم جزء وتابع من محور إقليمي يضم تركيا وقطر، وهما دولتان من أكثر الدول قربا لإسرائيل بعلاقات وتحالفات سرية وعلنية، وأن التأثير على حماس دور وإنجاز تريد الدولتان تحقيقه، وهذا ما أكده وزير الخارجية التركي قبل أسابيع عندما أعلن أن بلاده تُمارس ضغوطا على حماس من أجل أن تعترف بإسرائيل.
أما الاستجابة فإنها ليست وليدة اليوم، فالإخوان عندما حكموا مصر قبل سنوات لم يغلقوا سفارة الاحتلال ولم يطردوا السفير الصهيوني، بل أرسلوا سفيرا مصريا جديدا لتل أبيب، أي أن استجابات الإخوان سبقت حماس وكان هذا جزءا من ثمن الحصول على كرسي الحكم .
لعل الأقدار جعلت من آخر ظهور لرئيس المكتب السياسي لحماس مشعل قبل مغادرته هو الإعلان عن هذه الوثيقة التي سيكون لها ما بعدها. وربما حماس تنتظر ردود فعل ايجابية على وثيقتها من العواصم الهامة، لكن اسرائيل وكعادتها ورغم أنها تدرك معنى ما صدر عن حماس إلا أنها محترفة في الابتزاز، ولهذا فقد وصفت الوثيقة بالخداع، لأن إسرائيل ستبقى تضغط حتى تحصل على كل ما تريد تماما مثلما فعلت مع المنظمة.
أعلنت حماس في وثيقتها ابتعادها عن الإخوان وهم في أضعف مراحلهم، ورغم أن هذا ليس أكثر من تكتيك لإرضاء بعض الدول وتحسبا لأي موقف أميركي ضد الجماعة، إلا أن الموقف من الناحية الأخلاقية يثير التساؤلات، فالجميع يعلم أن حماس إخوان، وأنها تستثمر الجماعة لخدمتها في كل الأقطار مثل مصر والأردن والخليج والسودان.
تعيد حماس الجديدة إنتاج نفسها سياسيا، وربما على قيادتها الجديدة أن تخوض معركة كبيرة لإقناع العالم أنها تغيرت لكن الثمن قد يكون شرعية حماس الشعبية مقابل فتح أبواب بعض الدول لها، أما الثمن الأكبر فسيحصل عليه من يقودون حماس إلى شكلها ومضمونها الجديدين.
________________________________
(*) نقلاً عن موقع سكاي نيوز العربية. الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي فورمينا