لم يتوقّع فايق القاضي أن يأتي يوما لا يجد فيه قوت ومستلزمات أبنائه الخمسة أو أن يُقطع راتبه الذي بدأ بتقاضيه منذ أن أصبح موظفا بالسلطة الفلسطينية في منتصف تسعينات القرن الماضي، غير أن تلك التوقّعات تبخّرت بعد أن وجد نفسه بلا راتب، والسبب تأييد القيادي السابق في حركة فتح محمد دحلان!
القاضي، 49 عام، والذي كان يعمل برتبة عقيد في أحد أجهزة الأمن الفلسطينية، واحداً من نحو مائتين وأربعين موظّفا عسكريا ومدنيا قُطعت رواتبهم في بداية شهر يناير الماضي بتهمة التجنّح، أي الخروج عن سياسات السلطة. وقال لـ”فورمينا” :”توقّف راتبي منذ ثلاثة أشهر، وحسب المعلومات التي وردتني بأنه تم قطع رواتب مجموعة على مستوى قطاع غزة بحجة أنهم متجنّحين وتابعين لمحمد دحلان. ولا يُخفى على أحد، في ظل وضع المعيشي الصعب في قطاع غزة، فإن الأغلبية يقومون بالاستدانة من الأقارب والأصدقاء، وأنا من بينهم، حتى أستطيع إعالة أسرتي المكوّنة من خمسة أفراد من بينهم اثنين من طلاب الجامعات، بالإضافة إلى أنني أُعيل والدتي وشقيقي المريض بالسرطان”.
توقّف مصدر دخل القاضي الشهري الذي يصل إلى سبعة آلاف شيقل (حوالي 1750 دولار) وضعه في مأزق اقتصادي كبير، غير أنه ينفي ما قيل حول تلقيهم رواتب بديلة من النائب في المجلس التشريعي عن حركة فتح محمد دحلان.
وعلى الرغم من اتخاذ القاضي مراكز قيادية داخل حركة فتح، ناهيك عن كونه أحد أصغر الأسرى الفلسطينيين السابقين الذين سُجنوا في السجون الإسرائيلية بتهمة الانتماء للحركة، إلا أن هذا الأمر لم يمنع السلطة من اتخاذ قرار قطع الراتب بحقه، مضيفا :”في الانتخابات الداخلية لحركة فتح في رفح، كنت عضوا في لجنة الإشراف التي تتبع للرئيس عباس إلى جانب قيادات أخرى من الحركة من بينهم نوّاب في التشريعي، ورغم ذلك قُطع راتبي. فلا يوجد أي مبرّر لقطع الرواتب، ومن ثم لا أحد يستطيع أن يمنعني من أن أحب أو اكره أشخاص أو أُقيم علاقات شخصية مع أي شخص آخر”.
المصير ذاته لاقاه زميله في أحد الأجهزة الأمنية عماد أبو طه، 35 عام، حيث فوجئ بعدما ذهب لتسلّم راتبه في بداية يناير الماضي بقطعه دون سابق إنذار، وفق قوله.
ولفت لـ”فورمينا” أنه علم فيما بعد من بعض أصدقائه بقطع راتبه ومجموعة أخرى من زملائه، مشيرا إلى أن الحكومة برام الله أغلقت الباب بشكل كامل في وجوههم ورفضت استقبال أي شكاوى، فيما لا يوجد أي جهة يستطيعون التواصل معها، وفق قوله.
وأضاف :”كان يصل راتبي إلى نحو أربعة آلاف شيقل (ألف دولار)، ولا يوجد أي مصدر دخل ثاني، فيما أنني أقوم بالاستدانة من بعض أصدقائي كي أستطيع تسيير أمور حياتي وعائلتي التي تبلغ اثنا عشر فردا من بينهم طلاب مدارس ثانوية”.
لم تقف المشكلة لدى أبو طه عند قطع رابته، بل تعداه ليصل منعه من قِبل أجهزة أمن غزة قبل حوالي يومين من مزاولة أي مهنة أخرى، متابعا :”قبل يومين أرسل لي جهاز المباحث برفح بلاغ للحضور لديه، وحينما ذهبت أرغمني بالتوقيع على تعهّد بعدم ممارسة أي عمل ثاني” متسائلاً هل هي صدفة أم مؤامرة!.
من جهتها استنكرت مؤسسات حقوقية عدّة في قطاع غزة عملية قطع الرواتب، معتبرة إياها تأتي في سِياق التمييز بين الموظفين الحكوميين قطاع غزة والضفة الغربية والتناحر السياسي.
وقالت مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان إن استمرار تطبيق سياسة قطع رواتب الموظفين بشكل تعسّفي ودون وجه حق، يأتي تزامناً مع تصريحات صادرة عن مسئولين حكوميين تؤكد قطع رواتب عدد ممن إدّعت أنهم متجنّحين وقاموا برفض قرارات صادرة عن الرئيس محمود عباس.
وأضافت الضمير في بيانها الصادر بتاريخ التاسع من مارس الجاري :”تخشي الضمير أن يكون سبب قطع رواتبهم له علاقة تمييزية بمحل إقامتهم في قطاع غزة، وإذ تؤكد أنه لا يمكن لأي أسباب غير تلك الواردة في القانون أن يكون سبباً لقطع رواتبهم، وذلك بعدما أسّسوا حياتهم وفقا للمقتضيات المالية المترتبة على الوظيفة، وتؤكد على أن قطع رواتب الموظفين مخالفة واضحة”.
من جانبه بيّن محامي مؤسسة الضمير سامر موسى أن الأمور لا تبدو واضحة هل هي عملية فصل من الوظيفة ام قضية قطع راتب، مشيرا إلى أن الأمر أمام القضاء ليس سواء.
وأضاف لـ”فورمينا” :”الفقرة الرابعة من المادة 26 من القانون الأساسي أكّدت أنه من حق كل فلسطيني بتقلّد الوظيفة العمومية على أساس تكافؤ الفرص، والأهم أن قانونا الخدمة المدنية وخدمة قوى الأمن وفّرا مجموعة من الضمانات التي تكفل للموظف حق الحصول على راتبه وعدم جواز الاستقطاع منه أو الحجز عليه إلا وفقا لإجراءات محدّدة لم نجدها ماثلة أمامنا في قضية رواتب هؤلاء الموظفين، فهي إجراء عير قانوني، ناهيك أن عدم تمكين الموظّفين من الدفاع عن أنفسهم في حالة اتهامهم بمخالفات إدارية وجزائية هو أيضا انتهاك قانوني، فيما كان القرار منفردا من السلطة والحكومة برام الله دون إتّباع أي إجراءات”.
وأكّد موسى أن قطع رواتب الموظفين بتهمة “التجنّح” ليس قانونيا وليس له أي مسوّغ قانوني لان الموظّف الذي فُصل من وظيفته أو توقّف راتبه هو معيّن بطريقة قانونية واكتسب صفة الموظّف العام الذي يتوّفر له مجموعة من الضمانات القانونية للدفاع عن نفسه، مستدركا :”لكننا أمام حالة عشوائية غير مفهومة تندرج في إطار تناحر سياسي”.
وعلى الرغم من أن الموظفين المقطوعة رواتبهم بإمكانهم اللجوء إلى طرق قانونية، غير أن الأمر يبدو غير مشجّعا أمام حوادث سابقة شبيهة، واصفا الخطوة بالمعنوية، وأوضح :”الموظفون لهم ملاجئ قانونية كثيرة من أهمها التوجّه للقضاء الفلسطيني، لكن ما نخشاه أن التجربة السابقة للقضاء في موضوع قطع الرواتب أو الفصل من الخدمة ليست مشجّعة. فعلي سبيل المثال حينما عمل زملائنا في إحدى المؤسسات الحقوقية من استصدار حكما قضائيا لإعادة بعض المعلمين المفصولين بالضفة الغربية، أولا رفضته المحكمة ثم بعد ذلك أصدرت المحكمة العليا بكافة أعضائها قرارا بإرجاعهم لوظائفهم لكنه لم يُطبق”.
وقال موسى إن أسباب قطع الرواتب سياسية، مشيرا إلى أنها سياسة ممتدة منذ فترة قبل الانقسام، قائلا :”وهذه السياسة نابعة عن جهل لدى السلطة التنفيذية، حيث تفهم الأخيرة أن الولاء يُضمن عبر المال، وهذا فهم مغلوط ويتنافى مع صحيح العلاقة والتعاقد بين الموظف والدولة”.