تمت ترجمة المقال عن الإنجليزية بواسطة فورمينا
جذبت زيارة بانكسي الأخيرة لقطاع غزة اهتمام وسائل الاعلام، ولكن الفلسطينيين لديهم تاريخ طويل من فن الجدران السياسي.
قام فنان الشارع البريطاني مجهول الهوية، والمعروف ببانكسي، بنشر مجموعة أخرى من أعمال ال“جرافيتي” الفنية التي يتميز بها -ولكن هذه المرة من قطاع غزة. بعد نحو ستة أشهر منذ العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة والذي ترك الآلاف من أهل القطاع بلا مأوى، لا يزال الوضع على حاله، حيث أنه لم يصل القطاع الساحلي سوى حوالي 5٪ من مجموع الأموال المقررة لإعادة إعمار غزة. وقد رسم الفنان الشهير من خلال أعماله الفنية الجديدة صورة قد تبدو بائسة للمنطقة التي مزقتها الحرب، ليذكر العالم بمأساتها وبحجم الدمار الذي يعتريها.
وكشف الفنان الستار عن أول عمل من أعماله الأربعة، لوحة فنية كان قد رسمها على ما يبدو بأنه الباب الوحيد الذي لايزال قائماً مما كان في يوم ما منزلاً غزيّاً. ويصور هذا العمل الفني الذي أطلق عليه بانكسي عنوان“دمار قنبلة” تمثال نيوبي، إلهة إغريقية أسطورية تحولت إلى صخرة باكية حداداً على أطفالها المقتولين.
وفي لوحة أخرى رسم بانكسي قطة صغيرة تبدو وكأنها تلعب بكرة من الأسلاك الشائكة. وقد وصف بانكسي اللوحة على حسابه الشخصي على انستاجرام قائلاً: “جاءني رجل محلي وقال “من فضلك-ماذا تعني هذه اللوحة؟” فشرحت له بأنني أردت تسليط الضوء على الدمار في غزة من خلال نشر صور على موقعي الشخصي-ولكن الناس على الانترنت لا ينظرون إلا لصور القطط.”
كما وقام بانكسي برسم برج مراقبة إسرائيلي كان قد حوله إلى أرجوحة مدينة ملاهي للأطفال الصغار.
وبالإضافة لصور الجداريات، فقد قام بانكسي بنشر مقطع فيديو ساخر لمدة دقيقتين يوثّق فيه زيارته للمنطقة المحاصرة، تحت عنوان “فليكن هذا العام عاماً تكتشف فيه وجهة جديدة”. يرحب بك إعلان السفر الساخر إلى غزة، ثم يعرض تسلل بانكسي للقطاع عبر أحد الأنفاق مع مصر. يستمر الفيديو الذي تتخلله تعليقات ساخرة ليعرض لوحاته المرسومة وسط الركام وأنقاض المباني والجدران، بالإضافة لبعض اللقاءات مع السكان المحليين.
وينتهي المقطع بصورة لآخر جدارية “جرافيتي” خط بها الفنان النص: “لو غسلنا أيدينا من الصراع بين القوى والضعيف نكون قد وقفنا في صف القوي-فلا نبقى محايدين.”
ولا يعتبر بانكسي غريباً عن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، فقد قام بزيارة الضفة الغربية عام 2005 ترك خلالها عدداً من الأعمال الفنية البارزة والمشحونة سياسياً على الجدار العازل. وكان من بين أشهر أعماله الفنية في الضفة الغربية لوحة لفتاة صغيرة برداء زهري اللون تقوم بتفتيش جندي، وأخرى لفتاة تطير بعيداً بالبالونات في وكأنها تتخطى الجدار.
كما وقام فريق “باركور غزة” بالرد على مقطع الفيديو السياحي الساخر الذي نشره بانكسي بمقطع ساخر خاص بهم بعنوان “بعد بانكسي: دليل الباركور لغزة” والذي نشرته ذي غارديان دوكس. يدعو الفريق من خلال الفيديو، والذي يحتوي على موسيقى تصويرية لفنانة الهيب هوب الفلسطينية شادية منصور، “السيّاح” لزيارة غزة على اعتبار أنهم المرشدون السياحيون بقولهم: “تبلغ نسبة العاطلين عن العمل 50٪، ولذا فنحن متفرغين وعلى أتم الاستعداد لأن نأخذكم في جولة.”
ويقوم أعضاء الفريق، طوال مدة الفيديو، بتأدية العديد من الشقلبات بأشكالها المختلفة وبالقفز من أماكن مرتفعة وذلك حول بعض أعمال بانكسي الفنية وبين ركام بيوت ومبانٍ دُمرت خلال الحرب التي دامت لمدة 51 يوماً الصيف الماضي. وفي مشاهد أخرى يقوم هؤلاء الشباب بالركض فوق كتل ملونة من الباطون بجانب ممشى ميناء غزة، والتي تشكل ذات نفسها لوحات فنية من ضمن مشروع للشباب الغزيّ للرسم الجداري “جرافيتي” في ميناء غزة البحري.
ومعربين عن مدى صعوبة الحياة في غزة بعد الحرب وفي ظل الحصار، يتحدث أعضاء الفريق عن حاجة ما يقارب 12 ألف شخصاً إلى منازل بعد أن دمرت منازلهم خلال العدوان، وعن شح الكهرباء، وعن حقيقة أن غالبية المياه الموجودة غير صالحة للشرب. وبالرغم من كل ذلك فلا يزالون صامدين: “بالرغم من كل ما يحدث في غزة، فها نحن هنا ولا زلنا أحياء وأرواحنا في غاية القوة.”
الجدران كلوحات للرسائل:
وأعمال بانكسي الفنية ليست هي الوحيدة أو الاولى من نوعها في فلسطين على الإطلاق. ففي حين أن ال“جرافيتي” تعد أمراً مثير للجدل ويخضع لضوابط صارمة في مختلف أنحاء العالم، فهو جزء لا يتجزأ من النسيج السياسي والاجتماعي الفلسطيني. فليس على فناني الجرافيتي في فلسطين، وفي غزة بالتحديد، القلق حيال دفع غرامة مالية فورية قدرها 80 جنيه إسترليني أو من أي تداعيات قانونية لبيعهم بخاخات طلاء لمن هم دون سن 16 عاماً، كما هو الحال في المملكة المتحدة. على العكس، فإن الفنانين الفلسطينيين يتم تشجيعهم ودعمهم من قِبل السلطات المحلية والمجتمع المدني.
وكان قد ظهر فن الجرافيتي في فلسطين في بداياته كشكل من أشكال المقاومة خلال النضال لتحرير فلسطين في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي. ووصف أبو أحمد شهوان والذي يعمل مدرساً في مدينة خانيونس جنوبي غزة ما يذكره من تلك الفترة قائلاً: “أذكر في الانتفاضة الأولى حين بدأ شباب وعناصر المقاومة من مختلف الفصائل السياسية الفلسطينية باستخدام الجدران كلوحات لترك الرسائل وللتواصل مع الناس،” وتابع شهوان متحدثاً عن حالات منع التجول التي كانت تدوم لساعات طويلة والتي كان يفرضها الجيش الإسرائيلي عليهم خلال الانتفاضتين: “كان الشباب الملثمون يقومون برش أسماء الشهداء وانتماءاتهم الحزبية، وكذلك تعميمات بإضرابات عامة، وشعارات احتجاجية متحدية الاحتلال على الجدران وفي الأزقة.”
لقد تراكمت على جدران غزة سنوات من الشعارات، وطبقات فوق الأخرى من الأخضر، والأصفر، والأسود، والأحمر يمثل كلّ منها مجموعة مختلفة للمقاومة الفلسطينية المسلحة. ولم تكن أعمال الانتفاضة الاولى هذه فنية بطبيعتها، فقد كانت مجرد شخبطات سريعة ورسائل تم رشها من قِبل شباب كانوا يخافون بأن يتم الإمساك بهم وبالتالي أسرهم، أو أن يتم إطلاق النار عليهم من قِبل الجنود الإسرائيليين خلال ساعات منع التجول.
أعمال الجرافيتي الفنية:
وما ظهر كشكل من أشكال المقاومة وكمنصة للبروباغاندا الحزبية والخطاب السياسي تطور ليصبح فناً للمناصرة والاحتفال. وبه أصبحت معظم أعمال الجرافيتي في غزة عبارة عن جداريات غالباً ما أحيت مناسبات وطنية أو أحداث عالمية أمثال يوم النكبة (اللقب الذي يطلقه الفلسطينيون على حرب عام 1948)، ويوم الأسير الفلسطيني، ويوم المرأة.
وتقوم مؤسسات المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية بالمشاركة في التحضير والإشراف على مئات الجدرايات المناصرة لحقوق الإنسان، كمشروع جداريات ميّا. استعملت هذه الجداريات فن الجرافيتي الجداري لتدعو إلى تحقيق العدالة البيئية والمناصرة للحق في مياه نظيفة في غزة. ولا زالت الأحزاب السياسية الفلسطينية تملك فرقها الخاصة من فناني الجرافيتي والخطاطين الذين يدللون على وجود وتأثير أحزابهم في مختلف المناطق، بالإضافة إلى إنتاج أعمال جرافيتي متعددة الأغراض بالنيابة عن أحزابهم.
فبعض هذه الجداريات تحيي ذكرى النكبة، وأخرى تدعو لمناصرة حقوق الأسرى الفلسطينيين، بينما يحيي بعضها الآخر ذكرى الحملات الإسرائيلية العسكرية ضد قطاع غزة والذين سقطوا شهداء خلالها. يؤكد محمد على أهمية فن الجرافيتي في فلسطين “أنا ؤمن بأن فن الشارع يحمل رسالة قوية جداً، كما أن هذه الجداريات تسجل تاريخنا النضالي،” ويسترسل بقوله “لكن اللوحات والجداريات التي تحتفل بجمال غزة وثقافتها وتبعث الأمل بحلول السلام والحرية ستبقى دوماً هي المفضلة لدي.” ويظهر محمد في الصورة أدناه وهو يرسم لوحة ل “حنظلة”، أيقونة اللاجئ الفلسطيني الطفل للفنان الفلسطيني ناجي العلي.
وبعيداً عن الشعارات واللوحات المشحونة سياسياً، فإن جدران غزة تبدو مزخرفة بخطوط ورسومات تروي قصص فرح وحزن سكانها. فأينما تنظر في غزة سيكون بإمكانك ملاحظة رسائل التهنئة التي تملأ تلك الجدران، سواء بالعودة من الحج أو بعرسان جدد أو بأسرى محررين قد تم إطلاق سراحهم، هذا بالإضافة لرسائل النعي والعزاء. وأحد الأعمال القليلة عن هذا الموضوع هو كتاب للمصورة السويدية ميا جروندال بعنوان “جرافيتي غزة: رسائل حب وسياسة” والذي يوثق مشهد الجرافيتي في غزة في الفترة ما بين 2002-2009.
توضح الصور التالية مجموعة من الجرافيتي السياسي في غزة اليوم ومكانة هذا الفن الجدراي في النضال الوطني الفلسطيني.
ولكن يبقى الجدار العازل في الضفة الغربية أحد أكبر لوحات الجرافيتي الفنية في فلسطين، فهو مغطى بالعشرات من أعمال الجرافيتي التي تلفت الانتباه لنضال الفلسطينيين اليومي تحت الاحتلال في الضفة الغربية والقدس، منها ما يحمل رسائل عن حقوق الإنسان، والمقاومة، ومنها ما ينادي بالوحدة والسلام.
يروي الفلسطينيون من مختلف الخلفيات والفصائل السياسية بفراشيهم تاريخهم نضالهم ضد الاحتلال الإسرائيلي. فكل عمل جرافيتي يسجل ويحفظ لحظة من التاريخ، ويؤكد على الأحقية بالأرض، كما وأن هذه الأعمال تعبّر عن الهوية الوطنية والثقافية لصانعها.
ومن بين اللوحات الأكثر انتشاراً في غزة والأراضي المحتلة، صور لمفاتيح وشعارات تعبر عن حق العودة. وغالباً ما تكون هذه الأعمال مصاحبة لرسومات لشخصية رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي الشهيرة “حنظلة”، ذلك الفتى اللاجئ عاري القدمين في ثيابه الرثّة “والذي سيبقى ابن العشرة أعوام حتى يعود إلى فلسطين حرة”. وطبقاً لناجي العلي، فإن حنظلة يمثله عندما أجبر على ترك بيته والنزوح خارجاً حين كان طفلاً. ولا يرتبط حنظلة بأي حزب سياسي سواء كان فتح، أو حماس، أو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أو حتى الجهاد الإسلامي. هو فلسطيني فقط. يقول فنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي في كتابه “طفل في فلسطين: رسومات ناجي العلي الكاريكاتيرية”: “كان [حنظلة] ابرة البوصلة، تؤشر بثبات نحو فلسطين. ليس فلسطين بالمعنى الجغرافي، ولكن فلسطين بحسها الإنساني-رمز لقضية عادلة”. واليوم، انضم للعلي وحنظلة المئات من فناني الجرافيتي الذين يواصلون نضالهم لأجل هذه القضية.