بيروت – أطلق مركز كارنيغي للشرق الأوسط تقريرا بعنوان “انكسارات عربية: مواطنون، دول، وعقود اجتماعية” تناول الاتجاهات الوطنية والعالمية في المشهد السياسي الجيوسياسي للبلدان العربية وبحث في جذور الاضطرابات الإقليمية التي تجتاح المنطقة من خلال تحليل ثلاثي الجوانب بدءا بالتنمية البشرية والمشهد الإنساني للمواطن العربي، ووضع الدول العربية سياسيا، وصولا إلى الطبيعة المتغيّرة للنظام الإقليمي العربي وفق المعطيات الجيوسياسية.
الأزمة الإنسانية
تعاظمت تحديات الديمغرافيا والتنمية البشرية جرّاء تحركات السكان الهائلة التي أشعلتها النزاعات في جميع أرجاء المنطقة في مرحلة ما بعد العام 2011. وقد شهدت بعض البلدان، ولا سيما العراق وسوريا نزوح أعداد ضخمة من المواطنين، هربا من جحيم الصراع إلى دول مجاورة أو بقاع أخرى في مختلف أرجاء أوروبا.
وكان من نتائج ذلك، أن عانت هذه البلدان من انخفاض حاد في جوانب من التنمية البشرية ومن تراجع مثير في أعداد وتخصصات من بقي من العاملين، مثل المستخدمين في مجالي الطب والهندسة. وهناك بلدان أخرى، مثل لبنان والأردن، التي استقبلت موجات متدفقة من اللاجئين، تعاني ضغوطا قاسية بسبب ما تقدّمه من خدمات مثل التعليم والضمان الاجتماعي والأجهزة الأمنية، يُضاف إلى ذلك أن الأنظمة السياسية القائمة على سياسات الهوية غدت أكثر تعقيدا بسبب التغيّرات السريعة في النسيج الاجتماعي في تلك البلدان. وكشف التقرير أن نحو 143 مليون عربي يعيشون في بلدان تعاني ويلات الحرب أو الاحتلال، كما أن نحو 17 مليونا طُردوا قسرا من منازلهم. وبينما يشكّل العرب 5 في المئة فقط من سكان العالم، إلا أنهم يمثّلون أكثر من 50 في المئة من لاجئيه.
كما فاقمت أزمات اللاجئين سياسات الهُويّة التي غيّرت التكوين الثقافي للعديد من المناطق، فعلى سبيل المثال أفرغت الموصل من أهلها المسيحيين للمرة الأولى منذ قرون، غير أن المسيحيين كانوا أفضل حالا من الأيزيديين والشبك والمندائيين والتركمان، الذين تعقّبهم تنظيم الدولة الإسلامية وقتلهم.
اقتصادات جديدة
أدى ظهور اقتصادات جديدة في مناطق النزاع، إلى إعطاء دفعة للتهجير القسري، ما يؤثر على مستقبل السلام. فقد غدا تهريب المهاجرين جزءا مهما من الجريمة المنظّمة تعود بأرباح سنوية قدرت ما بين خمسة وستة مليارات دولار.
ويستطيع الكثير من اللاعبين ومعهم أعداد كبيرة من الميليشيات التي شُكّلت إبّان الحرب، أن يفسد أي فرصة في المستقبل للوصول إلى تسوية سلمية. ونتلمس اتجاهات مماثلة، ولكن إلى حد أقل، في العراق وليبيا واليمن، كما نلمح آثارها على البلدان المجاورة. وقد غدت مدن تونس الحدودية، على سبيل المثال، متورطة بصورة وثيقة في اقتصاد ليبيا المرتبط بالحرب. ومع ارتفاع حدّة الصراع، قد يتواصل تدفق السكان النازحين على جانبي الحدود في البلدان العربية. وسيولّد هذا التوسع تحوّلات أكثر إثارة في النسيج الاجتماعي والنظرة الاقتصادية للمنطقة.
وفي المستقبل ستعتمد عودة هذه الأعداد الضخمة من اللاجئين على شكل تسويات السلام التي ستضع حدّا للنزاعات الحالية، وعلى قدرتها على ضمان السلامة والأمن وأيضا استيعاب المنتفعين من اقتصادات الحرب وسكان المناطق الجدد الذين حلوا محل سكانها المهجّرين.
المشهد السياسي
ما زالت أغلب البلدان العربية تواجه أزمة في مجال الحوكمة، على الرغم من تعدد استجاباتها من هذه الناحية. ويصر الكثير من البلدان التي لم تشهد مثل هذه الانتفاضات على أن الاضطراب الراهن في المنطقة نجم عن هذه الانتفاضات، وهي تحاول بالتالي العودة إلى الاستقرار الذي كان ينعم به النظام العربي عشية العام 2011، وتبذل الجهود لخلق أنظمة حكم أكثر إدماجا للجميع واستجابة لمطالبهم. كما أن بلداناً أخرى قد دهمتها الحروب الأهلية.
وتمثّل تونس نموذجا فريدا لدولة استجابت لهذه التحديات عبر الإقدام على صياغة عقد اجتماعي مستقبلي شامل يمنح المرأة حقوقا متساوية ويضمن الحقوق لجميع المكونات المجتمعية ويرسي الدعائم لدولة ديمقراطية حتى وإن لم تتغلب الدولة على مشكلاتها الاقتصادية والأمنية.
وأسهمت هيمنة القطاعات الأمنية والعسكرية في الدول العربية إلى حد كبير في الأزمات السياسية والحوكمية الراهنة؛ ففي البلدان التي شهدت انتفاضات شعبية تعاظم غضب الجماهير وتزايد سخطها جرّاء انتهاكات الشرطة. لكن حتى عندما حققت تلك الثورات النجاح، فشلت الحكومات المؤقتة الضعيفة والهيئات التمثيلية التي تفتقر إلى الخبرة، في وضع إصلاح القطاع الأمني على الأجندة العامة.
نتيجة لذلك، انهارت المؤسسات الأمنية والعسكرية في ليبيا واليمن، مثلا، انهيارا تامّا، الأمر الذي أضعف الدولة وعمّق الخلافات فيها. وقد أدت بعثرة المجتمعات الليبية واليمنية وتجزئتها على أسس مناطقية وقبلية وطائفية-إثنية إلى مآزق أمنية متعددة.
وبالتالي، أصبحت إعادة بناء القطاعات الأمنية المركزية جزءا لا يتجزأ من إعادة تعريف شخصية الدولة وتحديد أهدافها وإعادة التفاوض حول العلاقات بين الدولة والمجتمع، مع زيادة التعقيد إلى حد كبير في كلتا المهمتين.
وظهرت هذه المآزق نفسها في سوريا منذ العام 2011 وفي العراق منذ العام 2009. فعندما أصبح نوري المالكي رئيسا لوزراء العراق، انهار الجيش العراقي، وأدى ذلك إلى نشوء قوات الحشد الشعبي.
المشهد الجيوسياسي
أتاح تفكّك العديد من الدول العربية للكثير من البلدان فرصا جديدة لخدمة مصالحها الخاصة من خلال مساندة حلفاء محليين في ما يخص النزاع الإقليمي. وشمل هذا التدخل التمويل المُعلَن والخفي وتسليح الحلفاء المحليين والحملات الإعلامية من خلال المنافذ الإعلامية المحلية والعابرة للحدود، وفي بعض الحالات المتطرفة للغاية، من خلال العمل العسكري.
وليس ثمة خط وحيد واضح للنزاع الإقليمي، بل خطوط عدة متقاطعة ومتداخلة تربط بين دول المنطقة، التي تفاوتت فترات قوتها ودوام نفوذها على مر الزمن.
وربما لم يتجسّد التفاعل المتشابك بين الصراعات التي تعيد تشكيل الشرق الأوسط مثلما تجسّد في تدخّل روسيا في سوريا في خريف العام 2015. فموسكو لم تضمن صمود نظام الأسد وحسب، بل كشفت أيضا بما لا يقبل الشك عن عجز واشنطن، وخلقت اللحظة الأكثر تعقيدا على الصعيد الجيوسياسي منذ عقود.
للاطلاع على تقرير مركز كارنيغي للشرق الأوسط ، اضغط هنا
________________________________