لبنان يكافح من أجل ولادة جديدة

كان لبنان في الطليعة فيما يتعلَّق بالحرب الأهلية، وهو الآن آخر من التحق بركب الربيع العربي –صرخة ضجر عالية وموحّدة ضد السرقة والفساد والمحسوبية، وكل الذين تسبّبوا في انتشار البؤس والشقاء فوق هذه الأرض المكلومة.

ها هو الشعب اللبناني، إذ يقف مواطنون لا يمكن التفريق بينهم يحملون أعلامهم اللبنانية تعبيراً عن انتمائهم الموحّد المُكتشف فجأة أمام المصرف المركزي يطالبون حاكمه، الذي يرأسه منذ فترة طويلة، رياض سلامة، بالاستقالة وتسليم نفسه للسلطات القضائية، فضلاً عن توضيحات عن تكاليف حفل الزفاف الضخم الذي أقيم لنجله في باريس هذا العام، وتقديم تفاصيل عن أموال لبنان التي سرقتها الحكومة، تقول صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.

كلّن يعني كلّن” 

هذا هو هتاف ثورة لبنان –ضد سلامة، والرئيس المسيحي الماروني، ميشال عون، ورئيس الوزراء السني، سعد الحريري، ورئيس مجلس النواب الشيعي، نبيه بري، وحتى ضد حسن نصرالله، زعيم الجماعة المسلحة والحزب السياسي العضو في الحكومة الائتلافية، “حزب الله”.

تقول نيويورك تايمز، يشير تضمين نصرالله إلى أنَّ المحظورات تتساقط بوتيرة مثيرة. وبينما خرج حوالي مليون شخص إلى الشوارع، أي ربع سكان لبنان، في أكثر دولة طائفية في المنطقة، يقف الجميع متحدين متكاتفين حتى الآن.

لكن هذه الوحدة هشة. يُعتبر لبنان، مع وجود حزب الله، وكيلاً لإيران على حدود إسرائيل. قاتل حزب الله لإنقاذ الرئيس بشار الأسد في سوريا. ومن ثمَّ، لن يتخلى عن سلطته داخل الحكومة بسهولة. وقد بدأ حسن نصر الله بالفعل يلقي باللوم على قوى خارجية في إثارة الاضطرابات، محذّراً من الفوضى.

البلاد مغلقة حتى إشعار آخر

لكن الشباب اللبناني سئم أن يكون وكيلاً لأشخاص آخرين ويطالب باستعادة حقوق بلاده رافعاً العلم اللبناني. تشهد العاصمة اللبنانية، بيروت، حالة إغلاق تام. فالبنوك مغلقة والأعمال التجارية متوقفة. وبعد أسبوع من الاحتجاجات، جاء خطاب الرئيس اللبناني ميشال عون غير موفق. قال عون إنَّ “النظام، أيها الشباب، لا يتغير في الساحات”. قوبلت كلمات عون بالسخرية والنقد لأنَّ الحشود تعتقد أنَّ هذا هو بالضبط المكان الذي يحدث منه التغيير.

ما الشيء الجديد في تلك الاحتجاجات؟ حركة شعبية بدون قيادة تكتسب زخماً من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وتصر –على نحو موحد مفاجئ- على تغيير الوضع القائم وتحقيق العدالة للشعب. تميَّز العقد الماضي باندلاع موجات الغضب والتطلعات المثالية من فرنسا إلى مصر، ومن البرازيل إلى ليبيا، لكنها غالباً ما فشلت أو تبدّدت. من الجميل أن تخرج للاحتجاج بدون قيادة، لكنَّه ليس بالضرورة أمراً فعالاً.

هل يمكن للوضع أن يستمر بهذا الشكل؟

تقول نيويورك تايمز، لا يزال لبنان كما هو بحكومته الضعيفة، وجيشين (جيش الدولة وجيش حزب الله)، وعملتين، و18 طائفة دينية معترف بها رسمياً، والعديد من نظريات المؤامرة. لا يمكن للوضع الحالي أن يستمر لفترة طويلة.

الدولة ضعيفة، والاقتصاد على شفا الانهيار، والمواطنون الثائرون ليس لديهم استعداد للتوصل إلى حل توافقي مع قادتهم، الذين تسبَّبت مطالبتهم بالولاء الحزبي والمذهبي في نشر الانقسام والاضطربات. لقد طفح الكيل من الحرب وأمراء الحرب وسياسات التخويف الطائفية. يسعى لبنان إلى بداية جديدة.

لسنا بلداً فقيراً..نحن فقط يحكمنا لصوص

تقول رودي مروم من أمام البنك المركزي لنيويورك تايمز: “هذه أول مرة في تاريخنا يتوحّد فيها المسيحيون والدروز والسنة والشيعة وكل طوائف الشعب. إنَّها فرصة لبنان الأخيرة، إما نجاح كبير أو فشل ذريع”. وأضافت إنَّ “اللبنانيين والفلسطينيين ساعدوا في بناء دبي. لم يستطيعوا بناء بلادهم، لذا اضطروا للرحيل والعمل في دول أخرى لإطعام أطفالهم”.

وقالت منى مسالخي، أخصائية علاج وظيفي تقف بالقرب من ابنتها، ليلى، البالغة من العمر 20 عاماً: “لبنان ليس بلداً فقيراً. نحن فقط يحكمنا لصوص. سأبقى في الشارع بقدر ما يتطلّب الأمر من وقت من أجل مصلحة ابنتي، التي ليس لها مستقبل بدون حدوث تغيير”.

تسمع نظريات مستفيضة حول كيفية دولرة الاقتصاد لاستعباد لبنان لخدمة المصالح الأمريكية، وكيف سهَّل رياض سلامة، حاكم المصرف اللبناني المركزي على مدار الـ 26 عاماً الماضية عمليات تحويل مبالغ طائلة إلى الخارج لوزراء الحكومة وعائلاتهم ومحاسيبهم.

يعاني الاقتصاد اللبناني، المتعطش لتدفقات رأس المال، حالة من السقوط الحر، مع عدم وجود نمو وارتفاع معدلات البطالة والضغط الكبير على الليرة اللبنانية. لم تُفتح البنوك منذ أسبوع خشية التهافت المذعور على الدولار.

تتراكم القمامة في الشوارع، وتأتي الكهرباء بصورة متقطعة، بالإضافة إلى تسرّب مياه الصرف الصحي إلى البحر. تقول بولا يعقوبيان، العضو المستقل في البرلمان، والتي كانت ترتدي قلادة ذهبية مكتوب عليها كلمة “كفى”، إنَّ “الشيء الوحيد الذي نعيد تدويره هنا هو السياسيون”.

لا أعرف ما إذا كانت الحكومة فاسدة للغاية

تمكنا من الوصول إلى مكتب رياض سلامة من مدخل خلفي للبنك المركزي عبر مرآب وسط تدابير أمنية مُحكمة. لم يكن موجوداً سوى عدد محدود جداً من الموظفين. كان حاكم البنك المركزي يرتدي بذلة أنيقة وربطة عنق في مكتب خافت الإضاءة تفوح منه رائحة السيجار. كان مضغوطاً على نحوٍ واضح ومستاءً من الاتهامات الموجهة إليه.

قال سلامة لنيويورك تايمز، وهو الذي تولَّى هذا المنصب قادماً من شركة “ميريل لينش” المالية العالمية: “اليوم، يستطيع أي شخص قول أي شيء عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لقد قرأت كثيراً من السير الذاتية المزعومة المكتوبة عني، واكتشفت أنني لم أكن أعرف نفسي”. وأضاف، مع ابتسامة فاترة، “مساهمتي طوال السنوات الماضية كانت محاولة الحفاظ على استقرار لبنان”.

وقال سلامة إنَّ التعامل مع اقتصاد صغير يعتمد على الدولار أمر ليس سهلاً، حيث 73.5% من الودائع هي بالعملة الأجنبية، والعجز في الميزانية مرتفع، وحماية العملة الوطنية هي معركة يومية.

وأضاف: “لا أعرف ما إذا كانت الحكومة فاسدة للغاية، لكنني أستطيع القول أنني عملت بجد لإنشاء لجنة تحقيق خاصة لمكافحة عمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، ولم أتهاون في ذلك مطلقاً. وأولئك المتضرَّرون من قراراتي يحاولون الآن إيذائي بتهم الفساد”.

وأكَّد سلامة أنَّ المصرف المركزي لا يملك سلطة على الحسابات المصرفية الخاصة لأعضاء الحكومة، قائلاً: “المصرف المركزي لا يتعامل مع حسابات خاصة. لا أملك هذا الامتياز. يجب على البنوك معرفة عملائها وإبلاغنا إذا رأت شيئاً مشبوهاً”.

أما عن حفل زفاف نجله الفخم في كان بباريس، والذي كان محور الكثير من الغضب، قال سلامة إنَّه أقيم في الخارج لأن ابنه المسيحي الديانة تزوج من مسلمة وكان من الأسهل عقد زواج مدني في فرنسا. وأوضح: “كان مجرد عشاء عادي”.

سلامة في موقف عصيب

كان سلامة يشعر بالقلق بشكل واضح. وقال إنَّه ليس لديه أدنى فكرة عن كيفية انتهاء تلك المواجهة. تشكل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم معظم الاقتصاد اللبناني، وتفتقر هذه المؤسسات إلى تحقيق أي دخل في الوقت الحالي، حيث يشهد لبنان حالة من الشلل. وأكد سلامة أنَّ “الحل ليس بالعنف. ثمة حاجة إلى تجديد الثقة”.

وعندما سئل سلامة عما إذا كان سيستقيل. أجاب: “سأفعل إذا كان ذلك في مصلحة البلد، لكنني أعتقد أنَّه سيحدث أثراً عكسياً، فيما يتعلَّق بثقة الأسواق”. وتابع: “إذا كنت أنا المشكلة، فيمكنك أن تعتبرها قد حُلَّت. لكن الحشد بتصوير رأس المال والمال باعتباره عدواً لا يقودان البلاد نحو الأمام. نحتاج إلى بناء دولة واقتصاد قادر على تحقيق النمو”.

تقول نيويورك تايمز، إن سلامة يجد نفسه حالياً في موقف عصيب بعد عقود من التورّط مع شبكة السلطة اللبنانية. وعندما رأينا المواطنين الغاضبين المحتشدين أمام البنك، لم نستطع رؤية حل فوري لتلك المواجهة. إنَّها معركة جيلية من أجل مستقبل بلد كريم يمكن أن يُمثّل بالتأكيد مثالاً يحتذى به في الشرق الأوسط.

يخوض المعركة اليوم جيل لم يعاصر تلك الحرب نوعاً ما، لكنه يكافح للتخلّص من إرثها. ستكون معجزة إذا نجحوا، لكن بعضاً من بريق لبنان الجديد قد انطلق وظهر للعيان في الأيام التسعة الماضية ولن ينطفئ سريعاً.

________________________________

(*) نقلاً عن موقع عربي بوست. الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي فورمينا

من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدام الكوكيز. المزيد من المعلومات

The cookie settings on this website are set to "allow cookies" to give you the best browsing experience possible. If you continue to use this website without changing your cookie settings or you click "Accept" below then you are consenting to this.

إغلاق