خطة السعودية لاقتحام عالم صناعة الأفلام مع تعثر دول المنطقة
بينما عصفت الصراعات والأزمات بالعواصم الثقافية العربية كدمشق والقاهرة وبيروت وغيرها، تستضيف المملكة العربية السعودية مهرجانات سينمائية وتمول أفلاماً جديدة، إذ عُرِض 27 فيلماً سعودياً لأول مرة في شهر ديسمبر/كانون الأول بمهرجان سينمائي في مدينة جدة، في إطار جهد ضخم للمملكة المُحافِظة لتحويل نفسها من “العزلة الثقافية” إلى “قوة سينمائية” في الشرق الأوسط، كما تقول صحيفة The New York Times الأمريكية.
تحولات عميقة بالقطاع الفني والثقافي بالسعودية
يعكس الجهد السعودي تحولات عميقة في الصناعات الإبداعية عبر العالم العربي. على مدار القرن الماضي، بينما اشتهر اسم السعودية نفسها أكثر بقليل من النفط والصحراء، برزت القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد بصفاتها منارات ثقافية عربية تنتج أفلاماً رائجة، وتسجل الأغاني التي تصدرت قوائم المبيعات وتملأ الأرفف كتباً أثارت نقاشات بين المثقفين.
لكن على مدى العقد الماضي، تضررت تلك الموروثات بسبب الصراعات والانهيارات المالية وإخفاقات الدولة. ودمرت سنوات الحرب استوديوهات التلفزيون السوري ودور نشر بغداد. وترك الانهيار الاقتصادي دور السينما اللبنانية تكافح من أجل إبقاء الأضواء مشتعلة.
وشهدت صناعة السينما في مصر، التي جعلت لهجتها من اللغة العربية الأكثر انتشاراً، تدهوراً فنياً لسنوات، واختطفت أجهزة المخابرات في البلاد برامجها التلفزيونية للترويج للموضوعات الموالية للحكومة.
لذا من نواحٍ كثيرة، فإنَّ موقع القيادة الثقافية للمنطقة جاهز لمن يستحوذ عليه، وتنفق المملكة العربية السعودية ببذخ في سبيل تحقيق ذلك.
السعودية.. من بلد كان يمنع وجود دور سينما إلى مركز كبير لها
تقول الصحيفة الأمريكية إنه في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، ظهر سكان جدة مندهشين، بينما كانت نجمات مثل هيلاري سوانك ونعومي كامبل يتمايلن على السجادة الحمراء بفساتين كاشفة، والمؤثرون السعوديون ينسقون الأغاني في حفلات الرقص.
كل هذا في بلد لم يكن حتى سنوات قليلة مضت يسمح بدور السينما، وكان على صانعي الأفلام الطموحين في كثير من الأحيان تفادي الشرطة الدينية للتصوير في أماكن خارجية.
وفي هذا السياق، قالت منى خاشقجي، المنتجة السينمائية والمسرحية السعودية التي كانت تتجول في معرض المواهب الذي أقامه المهرجان لصانعي الأفلام السعوديين الطموحين: “حان وقت التألق هنا في المملكة العربية السعودية”. وكان مسؤول حكومي قد أعلن أنَّ المملكة ستدعم إنتاج 100 فيلم بحلول عام 2030، وستغدق على المشروعات الجديدة بالتراخيص والنفوذ والتمويل.
ومستغرقة في أفكارها، أضافت منى لنيويورك تايمز: “الآن بعد أن أصبحت صانعة أفلام، ربما سأحصل على المال”.
ويقود هذا التغيير الحاكم السعودي الفعلي، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي يريد التخلص من صورة المملكة الراسخة من خلال بناء صناعة ترفيهية لتحفيز الاقتصاد وخلق فرص عمل.
أموال هائلة يتم صرفها لأجل هذه الصناعة
ولبناء صناعة جديدة، يستغل السعوديون الثروة النفطية لبلدهم لتمويل الإنتاج المحلي، ورعاية صانعي الأفلام السعوديين للدراسة في الخارج وإنشاء مدارس تدريب محلية، ومسرح صوت واستوديوهات. وتمول الحكومة مبادرات مماثلة لتشجيع الفنانين التشكيليين والموسيقيين والطهاة السعوديين.
جذبت الحكومة ثلاثة أفلام من هوليوود ذات الميزانيات الكبيرة لتصويرها في البلاد بتمويل وطائرات هليكوبتر ومقاتلات مقدمة من الحكومة، على أمل التفوق على الأردن والمغرب من حيث الوجهة المفضلة التي تتميز بالمناظر الطبيعية الصحراوية الخلابة.
وخلال حلقة نقاشية في المهرجان، قال بهاء عبد المجيد، المسؤول في وزارة الاستثمار السعودية، إنَّ المملكة لديها هدف واحد؛ وهو “جعل السعودية مركزاً جديداً لصناعة الأفلام في المنطقة”.
وبعد أن عدَّد عبد المجيد عوامل الجذب التي تقدمها المملكة لصناعة السينما، ضحك مدير الجلسة، مراسل مجلة Variety، نيك فيفاريلي، وقال: “باختصار، لن تكون القيود الحكومية موجودة، وستفرشون السجادة الحمراء”.
تحديات كبيرة لا تزال أمام السعودية
لكن على الرغم من الأموال الهائلة التي يمكنها تقديمها، تواجه المملكة تحديات كبيرة، كما تقول الصحيفة الأمريكية. فالسعودية متأخرة عقوداً في بناء فئة من المبدعين والفنيين المهرة. ويُحجِم العديد من المهنيين العرب عن الانتقال إلى الدولة المحافظة اجتماعياً، التي تحظر المشروبات الكحولية وتسجن الحكومة المعارضين لانتقادات معتدلة.
وتساءل بعض المخضرمين في الصناعة إلى متى سيستمر هوس السينما السعودية، مشيرين إلى محاولات سابقة من قبل الإمارات العربية المتحدة وقطر لإنشاء صناعات سينمائية استناداً فقط إلى قوتهما المالية، لكنها كانت مبادرات قصيرة العُمر. فيما تساءل آخرون متى ستصبح الصناعة مربحة، دون أن تعتمد فقط على الثروة النفطية الحكومية.
من جانبه، قال مازن حايك، مستشار الاتصالات الإعلامية والمتحدث السابق باسم مجموعة قنوات MBC، أكبر شبكة تلفزيونية في العالم العربي: “سنعطي ريادة الثقافة دفعة طالما سعر برميل النفط يتجاوز 70 دولاراً، لكن باستثناء ذلك ستكون الجهود محكومة بالفشل”.
وأشار إلى أنه من أجل زراعة الثقافة الإبداعية، يجب على الدول العربية ضمان الحريات الشخصية وسيادة القانون وممارسات السوق الحرة والتسامح. وأضاف حايك: “سيكون لديك موظفون مستقلون بارعون في قطاعاتهم، لكنهم لا يريدون بالضرورة العمل مع الحكومات أو في الشركات المملوكة للدولة”.
وتساءل بعض المخضرمين في الصناعة- بنفحة من الغطرسة- عمّا إذا كان العرب من الدول الأخرى سيشاهدون الأفلام السعودية. قال فيليب عرقتنجي، مخرج ومنتج فرنسي لبناني: “في السعودية لديهم المال، ولديهم الوسائل. لكننا نمتلك ثراءً في القصص. إنهم يضخون مبالغ ضخمة من المال، لكن إلى متى سيستمرون في ذلك؟”.
“الفرصة السعودية أفضل من جيرانها“
وما يصب في صالح المملكة أنَّ عدد سكانها يبلغ 22 مليون نسمة؛ مما يعني أنها يمكن أن تدعم صناعة محلية أفضل من جيرانها الخليجيين الصغار، كما قال فيصل بالتيور، رئيس شركة توزيع الأفلام CineWaves ومقرها الرياض.
وعلى الرغم من أنَّ عدد سكان السعودية يبلغ حوالي خُمس سكان مصر، إلا أنَّ السعوديين أكثر ثراءً واتصالاً بالتكنولوجيا؛ مما يجعلهم أكثر ميلاً للدفع مقابل خدمات البث المباشر وتذاكر السينما. وعند سعر نحو 18 دولاراً، تعد التذكرة في دور العرض السعودية من بين الأغلى في العالم.
لكن المملكة سمحت بإعادة فتح دور السينما في 2018 فقط بعد حظر دام 35 عاماً. وقبل ذلك، كان السعوديون يلجأون إلى البحرين أو دبي المجاورة للذهاب إلى المسارح.
وقال عبد المجيد إنَّ الدولة لديها الآن 430 دار عرض، والعدد في ازدياد؛ مما يجعلها السوق الأسرع نمواً في العالم، إذ تستهدف 2600 دار بحلول عام 2030.
لكن بدلاً من إغراق جيرانها، ربما يعزز انفتاح السعودية بقية صانعي الأفلام في المنطقة أيضاً. في هذا الصدد قال محمد حفظي، رئيس شركة فيلم Film Clinic، وهي شركة إنتاج مقرها القاهرة، إنَّ شعبية المحتوى المصري في السعودية تجعله سوقاً مغرياً للاستوديوهات المصرية.
أعمال تعاونية سعودية مصرية
يجري العمل على العديد من الأعمال التعاونية السعودية المصرية، وكان الفيلم الكوميدي المصري “وقفة رجالة”، المستوحى من فيلم “Hangover” ، هو الأعلى ربحاً في السعودية هذا العام، متفوقاً على أفلام هوليوود.
إضافة إلى ذلك، تقول ريبيكا جوبين، أستاذة الدراسات العربية في كلية ديفيدسون في نورث كارولينا، إنَّ الإنتاجات السعودية قد تستمر أيضاً في جذب مواهب التمثيل والكتابة والإخراج من لبنان وسوريا ومصر، وستحتاج على الأرجح إلى فعل ذلك للوصول إلى الجماهير غير السعودية.
بدوره قال مروان مُقبل، المصري الذي شارك في كتابة فيلم الرعب السعودي “جنون” عن مُدوِن فيديو وعُرِض لأول مرة في مهرجان جدة: “مع الانفتاح السعودي، يقولون في مصر إنه ينقذ صناعة السينما هناك”.
يمكن أن تكون حالة الزخم هذه سريالية بالنسبة لصانعي الأفلام السعوديين الذين عانوا عندما حُظِرَت دور السينما في المملكة، وكانت تصاريح الأفلام صعبة لتأمينها وكانت الصناعة تتعرض للتهميش.
وواجهت المرأة السعودية في هذه الصناعة تحديات كبرى. عند تصوير فيلم “وجدة” (2012)، وهو أول فيلم سعودي أخرجته امرأة، مُنِعَت المخرجة هيفاء المنصور من الاختلاط بأعضاء الطاقم الذكور. وعملت بدلاً من ذلك من الجزء الخلفي من شاحنة، وتواصلت مع الممثلين عبر جهاز اتصال لاسلكي.
بدورها، قالت عهد كامل، التي لعبت دور معلمة محافظة في فيلم “وجدة”، الذي يحكي قصة فتاة سعودية متمردة ترغب بشدة في الحصول على دراجة، أثناء سيرها في المهرجان: “ما زلت في حالة صدمة. هذا مشهد سريالي”.
________________________________