هل النظام في العراق يحتاج إلى التغيير ؟!

تواجه الولايات المتحدة مجموعةً مُلِحة من أهم الأسئلة المتعلقة بسياستها في العراق، لكنَّ الإجابة ليست محمد توفيق علاوي، رئيس الوزراء العراقي المُعيَّن حديثاً، بل قد تتمثل في انتفاضةٍ شعبية، كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية.

حكومة علاوي ليست الحل

يُمثِّل تعيين علاوي مؤخراً ليكون القائد القادم للعراق طريقاً مسدوداً للعراق والولايات المتحدة على حدٍّ سواء. فهو ليس لديه أي فرصة لحل الأزمتين الأساسيتين اللتين تعانيهما البلاد الآن: الأولى هي انهيار شرعية الطبقة السياسية في العراق بعد عام 2003، والثانية هي الخضوع العراقي المتزايد لإيران ووكلائها الشيعة المحليين.

لذا من الأفضل للولايات المتحدة أن تنأى بنفسها عن تعيين علاوي، وتُركِّز طاقاتها بدلاً من ذلك على دعم حركة الاحتجاج الاستثنائية التي أدت إلى تغيير السياسة العراقية منذ أواخر العام الماضي 2019، والتي تُمثِّل مطالبها بالسيادة والاستقلال وتشكيل حكومةٍ نزيهة آخر أملٍ لإنقاذ العراق ومستقبل العلاقات الأمريكية العراقية، تقول المجلة الأمريكية.

ومن الصعب المُبالغة في تقدير أهمية المظاهرات الجماهيرية التي اندلعت في العاصمة العراقية بغداد في 1 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، وامتدت سريعاً إلى كلِّ مدينة رئيسية في جنوب العراق. وتُعَد الأغلبية الساحقة من المتظاهرين -الذين يهيمن عليهم الشباب (إذ يُشكِّل الشباب العراقي الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً 60% من سكان العراق حالياً)- من الشيعة. لكنَّهم منذ بداية المظاهرات يطالبون بإصلاحٍ شامل للنظام الذي يهيمن عليه الشيعة والذي يحكمهم منذ سقوط الرئيس الراحل صدام حسين عام 2003، متهمين النظام بأنَّه فاسدٌ وغير كفء إلى حدٍّ ميؤوسٍ منه، ومصابٌ بالطائفية والإسلاموية والاختراق الإيراني إلى درجةٍ قاتلة.

الحكومة اختارت طريق القمع الوحشي

يبدو أننا لن نعرف أبداً هل كان غضب المتظاهرين ليهدأ لو اتُّخِذَت جهودٌ سريعة مُخلصة للوفاء بمطالبهم. وذلك لأنَّ الحكومة بدلاً من أن تحاول فعل ذلك، سرعان ما اختارت طريق القمع الوحشي المتمثل في قتل مواطنيها وتشويههم وإرهابهم بممارساتٍ انتقامية شديدة لدرجة أنَّها جعلت الاحتجاجات في هونغ كونغ تبدو كأنَّها مجرِّد لعبة أطفال. ففي موجات العنف الذي مارسته السلطات خلال الأشهر الأربعة الماضية، قُتل مئات الأشخاص أو اختُطفوا أو تعرَّضوا للتعذيب أو اختفوا، فيما أصيب حوالي 20 ألف شخص. 

وفي خِضَم هذه العملية، فُضِحت مساوئ أفراد الطبقة السياسية المنعزلين في برجهم العاجي -الذين عكفوا طوال الجزء الأكبر من العقدين الماضيين على نهب ثروات البلاد نهباً ممنهجاً لملء جيوبهم الخاصة- بكل ما تحمله من وحشيةٍ وقسوة وإجرام. 

وحين واجهت المؤسسة الحاكمة أزمة حادة أجبرتها على الاختيار بين الوقوف مع شعبها وحماية قوتها وامتيازاتها، اختارت السير في طريق قتل شبابها ومُعاملتهم بوحشية، أو -في أحسن الأحوال- الوقوف صامتةً والاكتفاء بمشاهدة أطرافٍ أخرى وهي تُمارِس هذا القمع والقتل. وصحيحٌ أنَّ عدداً قليلاً من الساسة صرَّحوا بانتقاداتٍ هامشية غير فعَّالة وأعربوا عن قلقهم وطالبوا بضبط النفس، ولكن لم يتقدَّم أحدهم باستقالته احتجاجاً على ما يحدث، ولم ينضم أحدٌ إلى المتظاهرين، ولم يذكر أحدٌ القتلة بالاسم، ولم يُحاسَب أحد.

وما زاد الطين بلةً أنَّ قرار الحكومة بقتل المتظاهرين جاء بترتيبٍ واضح من إيران، ونُفِّذ بأيدي وكلائها العراقيين، بما في ذلك مجموعةٌ قوات الحشد الشعبي. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّه كان معروفاً للكثيرين أنَّ قاسم سليماني كان يرأس اجتماعاتٍ في بغداد لرسم خطة معركة الحكومة لقمع الاحتجاجات والاستيلاء بطريقةٍ إمبريالية على سلطة القادة العراقيين المنتخبين، قبل مقتله بصاروخٍ أمريكي في الشهر الماضي يناير/كانون الثاني. 

وعندما لم يكن سليماني موجوداً في بغداد، كانت صلاحياته تُفوَّض إلى مُساعده العراقي الأكثر موثوقية، أبومهدي المهندس، القيادي البارز في قوات الحشد الشعبي الذي قبل أن يموت في الغارة الصاروخية نفسها التي قتلت سليماني، ظل يُصرِّح على مرِّ سنوات بدون خجل أنَّ ولاءه الأساسي ليس للعراق بل لسليماني والثورة الإيرانية.

الطبقة السياسية لم تعد قادرةً على التراجع الآن

تقول المجلة الأمريكية إنه يُمكن القول إنَّ الاحتجاجات كشفت “التحالف الشرير” القائم الآن بين الطبقة الحاكمة في العراق بعد عام 2003 والنظام في إيران. وقد تسارعت وتيرة توطُّد هذا التحالف -الذي ظل قيد الإعداد طوال سنوات- بظهور قوات الحشد الشعبي أثناء الحرب ضد الدولة الإسلامية (داعش) والدمج الشامل للميليشيات الشيعية، التي تُعد في الواقع كتائب أجنبية تابعة للحرس الثوري الإيراني، في قوات الأمن العراقية وأعلى المناصب الحكومية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما يُسمَّى عملية “تحويل العراق إلى نسخةٍ ثانية من حزب الله” كانت في طريقها بالفعل إلى الاكتمال حين اندلعت الاحتجاجات لأول مرة. وفي ظل اختيار الحكومة اللجوء إلى القتل بدلاً من الإصلاح، والاستسلام بدرجاتٍ متفاوتة من الحماس لمؤامرات إيران وأنصارها الرامية إلى سحق حركةٍ شعبية ترتكز على النزعة القومية العراقية، يبدو أن هذه العملية قد صارت تقريباً بلا رجعة. إذ يُمكن القول إن ما حدث أشبه بعبور يوليوس قصير لنهر روبيكون، أي أن هناك قدراً هائلاً أريق من الدماء البريئة لدرجة أن الطبقة السياسية العراقية لم تعد قادرةً على التراجع الآن. وقد انحاز أفراد هذه الطبقة إلى النظام الإيراني، سواء بدافع الولاء الأيديولوجي أو التخويف أو الرشوة أو الجشع أو غيرها من الأسباب الكثيرة التي لا يتسع المجال لذكرها كلها. 

الحل.. السلطة الانتقالية

وبسبب كل إخفاقات هذه الطبقة التي لا تعد ولا تحصى، والتي من بينها عدم تقديم حُكمٍ يحمل أدنى قدرٍ من الكفاءة وعدم حماية السيادة العراقية من الجهات الأجنبية المفترسة، يرفضها المحتجون رفضاً جماعياً قاطعاً. إذ يُصرِّون منذ بداية المظاهرات على استحالة وجود حلٍّ للأزمة الحالية يترك أيَّاً من أفراد الطبقة الحاكمة منذ عام 2003 مسؤولاً عن إصلاح النظام.

ويبدو أنَّهم يريدون بدلاً من ذلك إنشاء نوعٍ ما من السلطة الانتقالية، يباركها المتظاهرون وتتألف من أشخاصٍ يتمتعون باحترام كبير وليس لهم روابط مع النخبة الحاكمة الحالية، وتلتزم بجدولٍ زمني سريع لتنفيذ إجراءاتٍ طارئة شاملة تُمهِّد الطريق أمام انتخاباتٍ حرة ونزيهة بالفعل (ربما بتنسيقٍ وإشراف من الأمم المتحدة)، وتُقصي المجموعة الحالية من الحكام الفاسدين والأحزاب الإسلامية ومتملقي النظام الإيراني إلى الهامش السياسي.

غير أن هذا يُعد ترتيباً طويلاً جداً. ومن غير الواضح ما يعنيه عملياً أو كيفية تحقيقه بطرق تتسق مع سيادة القانون. لكنه لا يعني بالتأكيد تعيين محمد توفيق علاوي في منصب رئيس وزراء العراق. 

وتجدر الإشارة هنا إلى أن علاوي شيعيٌّ ذو توجُّهاتٍ إسلامية وعضوٌ سابق في البرلمان شغل منصب وزير الاتصالات العراقي مرتين. ويُقال إنه كان أقل فساداً وأكفاً من معظم زملائه في الحكومات العراقية المليئة باللصوص والفشلة. 

ومثله مثل عادل عبدالمهدي الذي سيحل محله الآن، يقال إن علاوي أقرب إلى أن يكون بيروقراطياً مخضرماً من كونه مهندس صفقات سياسياً، وليس لديه أي انتماء حزبي ويفتقر إلى أي قاعدة دعم مستقلة. لكنَّ الحقيقة التي ليس هناك مفرٌّ منها أنه أحد رجال نظام ما بعد 2003، شأنه في ذلك شأن عبدالمهدي أيضاً. ولذلك، فمنذ اللحظة التي ظهر فيها ترشيح علاوي المحتمل، رفضه المتظاهرون رفضاً قاطعاً ثابتاً جهوراً.

اختيار علاوي جاء بصفقة سرية أبرمت في إيران

ومن العوامل الأخرى التي لا تساعد علاوي أنَّ ترشُّحه للمنصب “انبثق بوقاحةٍ” من صفقةٍ سرية أبرمت، في إيران بالطبع، بين هادي العامري ومقتدى الصدر، وهما ركنان أساسيان من أركان النظام العراقي المختل القائم على إدارة الميليشيات والنهب باسم الإسلام ازدادا جموحاً وتوحُّشاً. 

فالعامري، الذي قاتل في صفوف إيران خلال الحرب العراقية الإيرانية، يرأس فصيلاً رئيسياً في البرلمان العراقي، وكذلك ميليشيا بدر المدعومة من الحرس الثوري الإيراني، التي تسيطر على وزارة الداخلية العراقية منذ سنوات وتؤدي دوراً بارزاً في قمع الاحتجاجات الحالية. أما الصدر -وهو رجل دين مناهض لأمريكا- فبالرغم من أنه شخصية أكثر زئبقيةً، فإنه يُعَد عنصراً أساسياً في نظام العراق الذي أصبح سُمِّياً بصورةٍ متزايدة، إذ يحلب الوزارات الحكومية ويستغل جماعاتٍ مُسلِّحة قاتلة لتعزيز ثروة حركته السياسية وقوتها والهالة الدينية المُحيطة بشخصيته.

ويُدرك المحتجون تماماً أن تعيين علاوي، في ظل مجيئه من منشأٍ يعتمد بوضوحٍ على أمثال العامري والصدر، أعِدَّ في بيئةٍ مليئة بالفساد، وأنَّ الغرض منه ليس إصلاح نظام العراق المُحطَّم، بل إنقاذه.

ولم يستغرق فضح الحقيقة المُحيطة بتعيين علاوي في 1 فبراير/شباط الجاري وقتاً طويلاً. فبينما كان علاوي يُدلي ببيانٍ تصالحي امتدح فيه المتظاهرين ووعد بمحاسبة مضطهديهم، كان الصدر في تلك اللحظة نفسها يرسل ميليشياته لمهاجمة المظاهرات وفضِّها وتكسير رؤوس أولئك الذين كانوا يُعلنون رفضهم تعيين علاوي. 

وواصل بلطجية الصدر ممارساتهم القمعية من تنكيلٍ وإحراق وقتل في بغداد ومراكز المظاهرات الأخرى في جميع أنحاء جنوب العراق طوال أسبوعٍ كامل. وبعد يومٍ دموي استثنائي في مدينة النجف في 5 فبراير/شباط، دعا علاوي الحكومة المؤقتة التي يرأسها عبدالمهدي إلى حماية الاحتجاجات حتى يتمكن من تشكيل حكومةٍ جديدة تُلبِّي مطالب الشعب. لكنَّه لم يتفوه بكلمةٍ واحدة ضد الصدريين الذين ارتكبوا الفظائع علانيةً باسم تعيينه. ولم يذكر كلمةً واحدة تُطالِب راعيه السياسي، الصدر، بوقف اعتدائه وتسليم المسؤولين عن القمع العنيف إلى السلطات كي يتلقون عقابهم. وكما هو متوقع تماماً، عادت قوات الصدر في اليوم التالي إلى مدينة كربلاء، تاركةً وراءها المزيد من الموت والدمار. 

شرعية الحكومة الجديدة في طريقها للزوال

تقول مجلة فورين بوليسي، بقدر ما قد يكون صعباً على إدارة الرئيس الأمريكي ترامب -نظراً إلى الدور الأمريكي الحيوي في تأسيس نظام ما بعد 2003 في العراق- أن تفهم الواقع الصعب المتمثل في أنَّ النظام العراقي بصيغته الحالية ليس شريكاً حيوياً لتعزيز المصالح الأمريكية، يجب أن تفعل ذلك الآن. صحيحٌ أن الوضع كان مُقلقاً للغاية حتى قبل بدء الاحتجاجات، لكنَّ الأحداث التي وقعت منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي لم تدع مجالاً للشك في هذه الحقيقة. فلأول مرة منذ عام 2003، تمارس الحكومة العراقية عنفاً منهجياً واسع النطاق ضد مواطنيها العُزَّل الذين تتماشى مطالبهم بالتغيير الديمقراطي والسيادة العراقية تماشياً كبيراً مع المصالح والقيم الأمريكية، كما تصف المجلة. 

ويُمكن القول إنَّ شرعية الحكومة، التي تُعَد في طريقها إلى الزوال سريعاً بالفعل، تحطَّمت في أعين الشعب العراقي تحطُّماً لا يُمكن إصلاحه على الأرجح. ولا شكَّ في أن جهودها للحفاظ على صلاحياتها بأي ثمن عن طريق شنِّ حرب استنزاف دموية ضد مواطنيها ستُسفر عن عدم الاستقرار وصراعٍ مُزمِنين.

بل إنَّ التهديد الأكثر مباشرةً للمصالح الأمريكية هو خضوع حكومة العراق المتزايد لجارتها الشرقية إيران. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الدور المهيمن الذي تؤديه إيران وميليشياتها في توجيه أعمال العنف ضد الاحتجاجات وتنفيذها مُزعجٌ بما فيه الكفاية. لكنَّه مصحوبٌ في الوقت نفسه بإذعانٍ من جانب الحكومة لحملةٍ إيرانية متصاعدة تهدف إلى مهاجمة الوجود العسكري والدبلوماسي الأمريكي في العراق.

ففي الأسابيع الأخيرة من العام الماضي 2019، شنَّت بعض الميليشيات المتحالفة مع إيران ما لا يقل عن 11 هجمةً صاروخية على منشآتٍ تستضيف القوات الأمريكية التي كانت تدعم حرب الجيش العراقي ضد تنظيم داعش. وبعد كل هجوم كان المسؤولون الأمريكيون يُطالبون السلطات العراقية بإدانة الهجمات واتخاذ إجراءات ضدها، لكنَّ الحكومة لم تفعل شيئاً. وتجاهلت السلطات العراقية المناشدات الأمريكية. ولكن حين أسفر هجومٌ وقع في 27 ديسمبر/كانون الأول عن مقتل متعاقد أمريكي (ليتجاوز بذلك خطاً أحمر واضحاً شدَّدته عليه إدارة ترامب مراراً وتكراراً) وشنَّت الولايات المتحدة هجوماً انتقامياً ضد كتائب حزب الله، التي تُعَد أحد أقوى وكلاء إيران الشيعة والتي كانت خاضعة لقيادة المهندس، سارع المسؤولون العراقيون إلى التنديد العلني بالولايات المتحدة لانتهاكها الخَطِر المرفوض للسيادة العراقية، على حد قولهم.

العراق يحتاج إلى تغيير النظام مجدداً

ومع ذلك، فإن الأمر الأكثر إثارةً للصدمة كان الهجوم على مقر السفارة الأمريكية في بغداد بعدها بأيام. فقد فتحت قوات الأمن العراقية في 31 ديسمبر/كانون الأول أبواب المنطقة الخضراء (المنطقة المشمولة بحراسة مشددة والتي تضم مكاتب حكومية ومجمعات دبلوماسية)، سامحةً لحشد من آلاف الأفراد المنتمين للميليشيات الموالية لإيران بمحاصرة محيط السفارة، واختراق الجدران الخارجية، وإلقاء النفايات على الحراس، وإشعال الحرائق. 

وعلى الرغم من أن الميليشيات انسحبت في النهاية وتُجنِّب السيناريو الكابوسي، فإن كابوس الاقتحام كاد يتحقق كما أن الانسحاب لم يكن بفضل الحكومة العراقية، بل على العكس تماماً، إذ واقع الأمر أن ما حدث كان عرضاً واقعياً صادماً بالصوت والصورة يُبرز عمق التغلغل الإيراني واختراقه النخبة الحاكمة في العراق، وهي النخبة التي بدت خلال الأحداث تتجاوز خطاً مصيرياً من السلبية المثيرة للشفقة في مواجهة الاعتداءات الإيرانية المستمرة على المصالح الأمريكية إلى شيء آخر يشبه أكثر ما يشبه “التواطؤ الفعّال” في ما جرى.

الشراكة الأمريكية مع النظام العراقي غير قابلة للاستمرار

تقول المجلة الأمريكية إن أي سياسة مبنية على الشراكة مع الدولة العراقية تصبح ببساطة غير فعالة وغير قابلة للاستمرار عندما يعمد مسؤولو النظام، في أعلى مستوياته السياسية والأمنية، ورغم هياكل الرواتب والسلطات الحكومية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، إلى تعيين أفراد محددين والاستعانة بجماعات مسلحة ولاءاتها الأساسية لنظام إيراني يعمل منهجياً على إلحاق أكبر الأضرار بالولايات المتحدة. وليست قابلة للاستمرار، عندما تكون الولايات المتحدة، بحكم الضرورة، مجبرة على أن تكون في موقف تضطر فيه إلى التحليق بطائرات دون طيار فوق الطرق السريعة الرئيسة في بغداد لتتابع سيارات على متنها قادة عسكريون عراقيون وإيرانيون كبار يتآمرون صراحة لمهاجمة المصالح الأمريكية.

ما يجب أن تكون عليه سياسة الولايات المتحدة عوضاً عن ذلك هو بالطبع سؤال أصعب بكثير. ومن المؤكد أن الأمر يستحق مراجعة عاجلة يُجريها فريق الأمن القومي للرئيس دونالد ترامب. ويأمل المرء أن يحدث ذلك. إذ يتطلب الوضع الجديد الناجم عن الاحتجاجات تحليلاً عميقاً، وارتياباً في الافتراضات القديمة، وتطوير خيارات سياسية جديدة.

تضيف المجلة: وكاقتراح عام، ربما تكون نقطة انطلاق جيدة لتلك الجهود هي الاستثمار على نحو أقل في الحكومة العراقية، والالتفات على نحو أكبر إلى حركة الاحتجاج عليها. إذ ضمن الترتيبات المعيبة للغاية للأمور في ما بعد عام 2003، أثبتت لعبة الكراسي في بغداد والمتعلقة بالتوافق على تولي رئيس الوزراء هذا أو تعيين المسؤولين الحكوميين هؤلاء بأنها كانت خياراً خاسراً على المدى الطويل للولايات المتحدة. وكانت تلك الساحة المفضلة لإيران ونتائجها الواضحة وصمةً أخذت شيئاً فشيئاً تلحق بالديمقراطية العراقية، ومحرّكاً يسرّع من تحويل الدولة العراقية إلى نموذج آخر من هيمنة حزب الله على لبنان. ومن ثم فإن تولي علاوي والتحامه بأي مجلس تهيمن عليه إيران وموالوها لن يفض على الأرجح إلى أي تغيير لهذا المسار، وعلى الولايات المتحدة أن تتصرف وفقاً لذلك.

الانخراط في الحركة الاحتجاجية ودعمها

في المقابل، تمثل حركة الاحتجاج تحدياً تاريخياً لكل ما ارتكبته إيران في العراق، بالرغم من أن المتظاهرين ليس لديهم ولع هائم بأمريكا التي يلومونها على إثقالهم بعد عام 2003 باحتلال فاسد ونظام سياسي فاشل. لكن كل ما عليك أن تشاهد مقاطع فيديو للمظاهرات عن كثب، ليتبين لك أنها لم تكن ملصقات تحمل صورة دونالد ترامب هي من عمد هؤلاء المتظاهرون إلى الدوس عليها يوماً بعد يوم، بل كانت صوراً لقاسم سليماني والمرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي. 

ولم تكن المنشآت الدبلوماسية الأمريكية والإيرانية التي ما انفكت تُحرق في جميع أنحاء المناطق الشيعية، بل كانت القنصليات الإيرانية ومقرات حلفائها الأبرز. ونعم، أخذ المتظاهرون، خاصة بعد عملية اغتيال سليماني والمهندس، إلى إقران هتافهم الأساسي: “تسقط إيران” بأخرى تقول “تسقط أمريكا”. لكن إن تحدثت إليهم ستجدهم يعترفون لك بأن ضم الولايات المتحدة للهتافات المعادية هو إلى حد كبير وسيلة للحدّ من خطر التعرض لهجمات وكلاء إيران الذين لا يرحمون.

الحقيقة أن الاحتجاجات في جوهرها، إضافةً إلى كونها انتفاضة ضد الحكم الفاسد العاجز، هي إلى حد بارز حركة جماهيرية تقودها روح قومية عراقية تستهدف التدخل الإيراني المتفشي في البلاد، وليس التدخل الأمريكي.

ولا شك أن توفير سبيل للانخراط في الحركة الاحتجاجية ودعمها، في ظل افتقارها إلى القيادة والتماسك كما هو الوضع الآن، ودون وصمها أو تعريضها للخطر عن غير قصد، يمثل تحدياً سياسياً صعباً. ومع ذلك، فإن هذا هو الموضع الذي يجب أن تتركز فيه طاقات وعناية صناع السياسات في الولايات المتحدة. ويجب أن تكون هناك حملة منسقة لإبقاء أعين العالم على الاحتجاجات وإطلاعه على الهجمات والحملات التي تشنها إيران عليها. 

وبالتعاون مع الحكومات الحليفة، ينبغي لواشنطن الإشراف على إصدار بيانات وقرارات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى للتعبير عن التضامن والاهتمام بالشعب العراقي؛ وإيجاد طرق لمساعدة المنظمات غير الحكومية العراقية والدولية التي تعمل بتكتمٍ مع المحتجين لتوجيه حركتهم ومطالبهم إلى برنامج سياسي عملي، ومساعدة المحتجين على الوصول إلى تقنيات الاتصالات الآمنة لمواجهة حظر الحكومة الوصول إلى الإنترنت.

تغيير النهج الأمريكي في العراق

كما يجب العمل على تسريع معاقبة القيادات المشاركة في قمع المحتجين وهم لا يقتصرون على قادة الميليشيات، بل وأيضاً كبار السياسيين مثل العامري والصدر ومساعديهم الرئيسيين الذين كانت أفعالهم المزعزعة للاستقرار قد حصلت على تصريح من الولايات المتحدة في وقت من الأوقات، ومحاكمتهم على الجرائم التي تمثل الشكاوى الرئيسة للمحتجين، وخاصة الفساد، وانتهاكات حقوق الإنسان، وفتح الطريق أمام النفوذ الإيراني المتفشي في البلاد. 

وأخيراً، يجب على حكومة الولايات المتحدة، وفي تكتم وبالتعاون مع أكثر شركائها العراقيين والدوليين موثوقية، إجراء التعديلات اللازمة الآن على عملية نشر قواتها في العراق للحد من تعرضهم للخطر خلال الاضطرابات الحالية في البلاد، مع الحفاظ على أقصى قدر من المرونة للوفاء بالمهام الأساسية المتعلقة بمكافحة الإرهاب والرد بقوة على أي استفزازات إيرانية.

نادراً ما يكون الإقرار سهلاً بأن السياسة طويلة الأجل التي لطالما اتبعتها قد مضى الوقت عليها وأصبحت عاجزة عن تحقيق أغراضها. إن القصور الذاتي السياسي قوة محركة، والبيروقراطيات المترهلة دائماً ما تقاوم على الأغلب أي تغيير سياسي في وجهتها، خاصة عندما يتعلق الأمر بترتيبات مثل تلك التي انبنى عليها النظام السياسي في العراق بعد عام 2003 عندما أنشأته الولايات المتحدة. لكن أحداثاً كبرى تجري الآن في العراق، صارخةً في الجميع بأن عليهم إعادة تقييم الأمور جدياً. 

وليست فقط المصالح الأمريكية المهمة هي المعرضة للخطر، وإنما كما رأينا مراراً وتكراراً في الأسابيع الأخيرة، فإن حياة الجنود والدبلوماسيين الأمريكيين هي أيضاً معرضة للخطر على نحو متزايد. إن الإقرار بالحاجة إلى تحول كبير في النهج هي الخطوة الأولى الحاسمة نحو بناء سياسة طويلة الأجل وأكثر استدامة وفعالية في العراق، حتى وإن كان ذلك على حساب الاعتراف بأن نهج واشنطن في العراق منذ عام 2003 قد فشل فشلاً كبيراً.

________________________________

(*)  نقلاً عن موقع عربي بوست. الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي فورمينا

من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدام الكوكيز. المزيد من المعلومات

The cookie settings on this website are set to "allow cookies" to give you the best browsing experience possible. If you continue to use this website without changing your cookie settings or you click "Accept" below then you are consenting to this.

إغلاق