شهدت ولاية تطاوين التونسية، منذ منتصف نيسان/ أبريل 2017، موجة جديدة من الاحتجاجات ضد سياسات التهميش الاقتصادي والاجتماعي. وعلى الرغم من انحسار التجمعات الاحتجاجية الكبيرة وتراجع زخمها، ولا سيما بعد الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد مع عدد من وزرائه إلى تطاوين، واتخاذه جملة من الإجراءات كان أبزرها إقالة وزيرة المالية لمياء الزريبي ووزير التربية ناجي جلول، فإن ما ميز الموجة الأخيرة عن سابقاتها هو رفعها شعارات سياسية تجاوزت المطالب الاجتماعية والخدمية، وانضمام فئات اجتماعية جديدة إليها.
احتجاجات لا تتوقف
تُعدّ احتجاجات ولاية تطاوين الغنية بالثروات الطبيعية فصلاً جديداً في مسار احتجاجي طويل، تصاعد زخمه وزادت حدته خلال عام 2017. وبخلاف الأعوام السابقة، تمددت الظاهرة الاحتجاجية زمنياً وجغرافياً في عموم الولايات التونسية، وبلغت ذروتها في آذار/ مارس 2017؛ إذ سُجل نحو 1089 تحركاً احتجاجياً فردياً وجماعياً، مع غلبة تجمعات النوع الثاني التي تجاوز عددها أكثر من ألف تجمع احتجاجي، كان أكبرها حجماً وأكثرها استمرارية في ولاية تطاوين تليها قفصة والقيروان. وقد بلغ الاحتقان الاجتماعي في مدينة تطاوين حداً دفع المحتجين إلى التوجه يوم 28 نيسان/ أبريل 2017 نحو منطقة “الكامور” الواقعة على بعد 100 كلم جنوب المدينة؛ لمنع جميع الشاحنات التابعة للشركات البترولية من الوصول إلى الحقول النفطية في الصحراء. كما قاموا بإغلاق معبر الذهيبة على الحدود التونسية – الليبية.
شملت الاحتجاجات قطاعات اجتماعية وشرائح شعبية متنوعة؛ من عمال، ومعلمين، وموظفين من سائر القطاعات العمومية والخاصة. وقد انضم إلى الاحتجاجات الأخيرة أصحاب المهن الحرة، والمؤسسات الطبية العمومية على خلفية تردي الخدمات الاستشفائية وافتقاد المعدات الطبية والأطباء الإخصائيين. كما شارك فيها المحامون، والمهندسون، والعاملون في قطاعي المخابر والجمارك؛ رفضاً لقانون المالية وسياسات الحكومية التونسية تجاه قطاعتهم. وما فاقم الاحتجاجات التي أخذت مظاهر مختلفة؛ إضرابات، وقفات، قطع طرق… إلخ، هو قيام رئاسة الجمهورية بإعادة طرح مشروع “المصالحة الاقتصادية” الذي تحول عاملاً إضافياً مولّداً لحراك احتجاجي آخر، قادته بعض منظمات المجتمع المدني تحت شعار “ما نيش مسامح” (أي لا نسمح). وقد اتهمت هذه المنظمات الحكومة بإعادة إنتاج منظومة الفساد التي كانت قائمة في النظام السابق، تحت عنوان “المصالحة”، للتهرب من تحقيق تقدم في مسار العدالة الانتقالية بعد الثورة، قبل أن تتفجر موجة الاحتجاجات الأخيرة في صحراء تطاوين.
أسباب الاحتجاجات ودوافعها
تتنوع دوافع الاحتجاج ومسبباته، وفقاً للظرف السياسي الذي أنتجها، ومخاض عملية الانتقال ما بعد الثورة، وطبيعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تتبعها الحكومة التونسية، على النحو التالي:
تردي الأوضاع الاقتصادية
يأتي هذا في مقدمة الدوافع والمسببات، إذ لم يتجاوز معدل النمو الاقتصادي في تونس عتبة 1% خلال السنوات التي أعقبت الثورة، لا سيما بعد تراجع إنتاج “الفوسفات”، أبرز الصادرات التونسية، إلى مستويات دنيا نتيجة الإضرابات المتكررة وسوء إدارة القطاعات في الولايات المنتجة، وخاصة في تطاوين؛ الأمر الذي دفع عشرات الشركات الأجنبية إلى المغادرة وغلق المصانع الجاذبة للعمالة. وقد ترافق ذلك مع تعطل مئات المشاريع الإنتاجية بسبب التعقيدات البيروقراطية الإدارية، وانتشار الفساد، وغياب الحكم الرشيد، وانعدام الأمن.
كما أدت العمليات الإرهابية المتكررة التي استهدفت القطاعات والمناطق السياحية، خلال العامين الماضيين، إلى تراجع مساهمة قطاع السياحة في الدخل القومي. وقد ساهمت جميع العوامل السابقة في تفاقم العجز التجاري التونسي بنسبة 57% خلال الربع الأول من العام الجاري، مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي؛ فقد وصل مبلغاً قدره 3.87 مليارات دينار (1.68 مليار دولار). ترافق ذلك مع تراجع الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية الذي بلغ، بحسب أرقام صادرة عن البنك المركزي التونسي، نحو 5.43 مليارات دولار؛ أي ما يكفي لتغطية الواردات لمدة 103 أيام فقط مقارنة بـ 107 أيام في الفترة نفسها عام 2016. وفي سياق مواز، لم تفلح جميع الإجراءات الحكومية في وقف الانحدار الحاد والمتواصل في سعر صرف الدينار التونسي أمام الدولار؛ ما دفع الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (منظمة الأعراف) إلى مطالبة الحكومة التونسية والبنك المركزي بتقديم توضيحات عن أسباب التراجع الحاد وتداعياته على الاقتصاد الوطني والاستثمار الداخلي، وتفسيراً لعجزها عن وقفه.
اختلال التنمية على المستوى الجهوي والمناطقي
كشفت الإحصائيّات المختلفة الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء ووزارة الشؤون الاجتماعية عن خلل جهوي حاد في التنمية وتوزيع الدخل بين ولايات الساحل الشرقي للبلاد وباقي الولايات الغربية والجنوبية، مع أن الحكومات التونسية المتعاقبة بعد الثورة تؤكد اتباعها سياسيات تنموية شاملة ومتوازنة من شأنها إيجاد معدلات تنمية “معقولة” على المستوى الوطني. ويبرز الخلل التنموي المتوارث من العهود السابقة واضحاً بين الولايات في المؤشرات الاقتصادية الاجتماعية؛ فقد وصل معدل البطالة في ولايات الشريط الغربي للبلاد إلى نحو 30% مقارنة بالمعدل الوطني للبطالة الذي تقدره البيانات الرسمية بـ 16.5%. والأمر ذاته يسري على معدلات الفقر؛ إذ تجاوز في الولايات الغربية نسبة 38% مقارنة بـ 15% على المستوى الوطني. والمفارقة هنا تتمثّل بكون معدلات البطالة والفقر أساساً لدى أصحاب الشهادات العليا؛ فالإحصائيات المختلفة تشير إلى أن نحو 50% منهم عاطلون على العمل. وبعبارة أخرى، استمرت حالة التهميش والخلل التنموي بين الولايات في مرحلة ما بعد الثورة؛ إذ تعثرت عجلة التنمية وتعطلت الاستثمارات للأسباب المذكورة أعلاه، ولم تنفذ الحكومة وعودها السابقة، أو لم تتمكن من تنفيذها، مع أن الدستور التونسي قد نص في الفصل 12 على أن “تسعى الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، والتوازن بين الجهات، استناداً إلى مؤشرات التنمية واعتماداً على مبدأ التمييز الإيجابي”.
العوامل السياسية
تتمثّل هذه العوامل بحالة عدم الاستقرار السائدة في الساحة السياسية، بخاصة في المشهد الحزبي؛ إذ تعكف غالبية الأحزاب السياسية، وفي مقدمتها حزب نداء تونس الذي يمثّل العمود الفقري للائتلاف الحاكم، على إعادة هيكلتها التنظيمية، بعد انقسامات وأزمات متتالية عصفت بها في خطوة استباقية قبل خوض الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2017. وقد ساهمت حالة التشظي الحزبية في زيادة مستوى المزايدات السياسية بين القوى المتنافسة، بما فاقم حالة الاحتقان السائدة، وضاعف الاحتجاجات الاجتماعية الأخيرة في تطاوين، وأكسبها بعداً سياسياً. وقد برز ذلك جلياً في المواقف المتناقضة للأحزاب والمنظمات الوطنية إزاء هذا الحراك. فعلى الرغم من إعلان غالبية القوى السياسية والمدنية بما فيها أحزاب الائتلاف الحكومي وكبريات منظمات المجتمع المدني، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، وكنفدرالية المؤسسات المواطنة التونسية، عن تأييدها للحراك الأخير بمختلف أنواعه، فإن تصريحاتها ومواقفها جاءت متفاوتة من حيث حدتها وسقفها السياسي، بحسب وزنها التمثيلي، وموقعها في التحالفات القائمة، وحساباتها الانتخابية المقبلة. ضمن هذا الإطار، ادّعت “الجبهة الشعبية” المعارضة قيادة الاحتجاجات الأخيرة، في حين حمّل الاتحاد العام التونسي للشغل الحكومة وأحزاب الائتلاف الحاكم مسؤولية الاحتقان الاجتماعي القائم في الولايات الداخلية. وتجلت المفاجأة الأبرز في مواقف تصعيدية اتخذتها بعض أحزاب الائتلاف الحاكم، وبخاصة حركة النهضة؛ إذ رأى النائب عن الحركة في ولاية تطاوين حسين اليحياوي أن “ثروات تطاوين منهوبة وتذهب مداخيلها إلى منطقة الساحل”. كما طالب رئيس كتلة حزب النهضة بمجلس النواب نور الدين البحيري بمنح أهالي المنطقة 20% من الثروات.
نحو مزيد من التأزم
ركزت أغلبية المطالب الشعبية التي رفعها المحتجون في القطاعات والمناطق على تحسين الأوضاع الاجتماعية، والتشغيل، والحد من الفقر، ومقاومة التهميش، والتوزيع العادل للثروات. لكنّ مزايدات الأحزاب السياسية والاستقطاب القائم أدت إلى تسيسها واتخاذها في بعض الأحيان طابعاً تعجيزياً، مثل المطالبة بتوزيع عائدات النفط والغاز ونسب التشغيل في القطاعات الحكومية استناداً إلى منطق جهوي مناطقي. وهو ما قد يعزز النزعة الجهوية على حساب منطق الدولة الواحدة والوحدة الوطنية، ويكرس الولاءات الفرعية على حساب الولاء للوطن الواحد؛ لأن الثروات الطبيعية تُعدّ ملكية عامة ولا يحق لأي جهة امتلاكها. وبناء عليه، فإن الإجراءات الإسعافية التي اتخذتها الحكومة لمعالجة الاحتجاجات السابقة والحالية ربما تساهم في “تهدئة مرحلية”، لكن آثارها سرعان ما تتلاشى أمام قصور السياسات العامة وعجزها عن معالجة المشكلات الاقتصادية للمواطن التونسي أو التخفيف من أثارها. في ضوء ذلك، قد تتجدد الاحتجاجات وتتوسع عددياً وجغرافياً تحت وطأة المزايدات السياسية قبل الاستحقاق الانتخابي المقبل أواخر العام الجاري. الأمر الذي قد يلقى بتداعياته على “وثيقة قرطاج” والتوافق السياسي القائم.
وأخيراً، وعلى الرغم من شرعية الحراك الاحتجاجي في تطاوين وباقي المناطق المهمشة، فإن استمراره مترافقاً مع عجز الحكومة عن معالجته، لأسباب ذاتية مرتبطة بسياسة بالحكومة وتركيبها، وأخرى موضوعية لا تتعلق بها، ينطوي على مخاطر عدة؛ لعل أبرزها تردي الأوضاع الأمنية، وتشتت جهد الأجهزة الأمنية والعسكرية، واستنزاف قدراتها على مواجهة التهديدات التي تواجه البلاد.
________________________________