من بين أكثر الأسماء الشائعة في عالمنا المعاصر تجيء لفظة «فاتيكان» لتحملنا على التفكير في هذا الكيان المثير، ذلك أنه وإن كان أصغر دولة جغرافياً على مستوى العالم، إلا أن القصص التي تتردد من حوله تحتاج إلى مجلدات قائمة بذاتها، ومؤلفات بحالها، فنحن أمام مؤسسة إنسانية دينية تعد قلب التاريخ النابض، بحسب جمهور المؤرخين غرباً وشرقاً ».
في هذه القراءة، لا نؤرخ للفاتيكان، فالتاريخ في هذه الحالة في حاجة إلى موقع وموضع آخر، وكثير من الحبر الذي يراق على الأوراق، إنما في هذه القراءة نحاول فقط إضاءة بعض الأضواء على المعلوم للبعض وللمجهول عند الكثيرين في العالم بشأن حاضرة الفاتيكان.
والشاهد أن الذين يقومون بالبحث عن كلمة «فاتيكان» على محركات البحث العالمية، عبر الشبكة العنكبوتية، يدهشون من قدر الأحاجي والقصص التي تحكى عن المؤسسة التي أشار إليها «وول ديورانت» المؤرخ الأميركي الأشهر في القرن العشرين، بوصفها «أهم مؤسسة بشرية عرفها التاريخ المعاصر»، وبين حقائق الواقع، تضيع كثير من معالم القصة التي نحن بصددها، ومرة ثانية، نحن لا نرمي إلا لإلقاء بعض من الضوء علي المشهد الفاتيكاني، لا نؤرخ له، ولا نميط اللثام عن أسراره ومسارات البشرية معه وعبره وفيه، فماذا عن ذلك؟
عن روما والكنيسة الكاثوليكية
عادة ما يعني مصطلح «الفاتيكان» الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، لكن واقع الحال هو أن تلك الكنيسة التي أسسها كبير الحواريين «بطرس الرسول» في العقد الرابع من القرن الميلادي الأول، عرفت طريقها إلى مدينة روما، قبل أن تظهر دولة الفاتيكان بنحو تسعة عشر قرن.
ذهب «بطرس الرسول» للتبشير بالمسيحية في روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت، وقد أسس مدينة روما عام 753 ق.م الرمز الروماني الأشهر «رمولوس» وهو أول ملوكها، وقد ظلت جمهورية حتى سنة 30 ق.م، وأخيراً إمبراطورية من 30 ق.م إلى سنه 476 ميلادية.
في العام الميلادي الأول، وفي عهد الإمبراطور «أغسطس قيصر» ولد السيد المسيح، وقد امتاز عصر هذا القائد الروماني بالرخاء والطمأنينة لجميع أفراد الشعب، وازدهار الآداب والعلوم حتى أطلق على عصره «العصر الذهبي»، وامتد حكم قيصر من سنه 30 ق.م إلى 14 ميلادية.
شهدت مدينة روما استشهاد الحواريين الكبيرين «بطرس وبولس» في منتصف ستينات القرن الأول الميلادي، وذلك خلال الاضطهاد الذي شنه الإمبراطور الروماني نيرون على المسيحيين في الفترة ما بين سنه 64 وسنة 68.
والمعروف أنه في عام 64 أشعل نيرون حريقاً كبيراً، واتهم المسيحيين بتدبيره، فذاقوا الأمرين من ظلمه واضطهاده، وقضى عليهم أفراداً وجماعات بالآلاف.
بحلول العام 303 كان اضطهاد المسيحيين قد بلغ ذروته، إلى أن جاء الإمبراطور قسطنطين في العام 312، وفي زمنه ربح الحرب على ملك الفرس، وقد رأى في السماء رؤية الصليب، فوضعه أعلى أسنة رماح جنوده.
أصدر قسطنطين عام م313 ما عرف بمرسوم ميلانو، والذي منح المسيحيين حريتهم وأعاد إليهم ممتلكاتهم المغتصبة منهم، وأكرمهم أيما إكرام، وأهدى البابا قصر لاتيرانو، وخصص له منحة سنوية سخية.
البابا والبابوية.. الرمز الأشهر
أكثر وأشهر ما تعرف به الفاتيكان، هو ذلك الرجل الذي يرتدي الثوب الأبيض، إنه البابا وله ألقاب كثيرة، الحبر الروماني» صاحب القداسة، «خليفة القديس بطرس»، أسقف روما»، والبابوية ذاتها تعج بأحاجٍ بشرية مثيرة، فمن الباباوات رجال قديسون، ومنهم من لم يكن له نصيب من اسمه البتة.
كلمة بابا «هي كلمة يونانية الأصل»، وتعني «الأب» فمن أسماء البابا كذلك «الأب الأقدس « ، على أن رأس الكنيسة الكاثوليكية، لم يوصف أو يعرف بـ «البابا» إلا بداية من العام 385 مع عهد البابا «سيريقيوس» والذي استمرت حبريته، أي رئاسته للكنيسة الكاثوليكية من (384 ـ 399م)، فقد أشار إلى نفسه باسم «البابا » ويعد أول من أعلن نفسه » بابا. «
حتى يومنا هذا يبلغ عدد البابوات الرومانيين نحو 265، أولهم القديس بطرس الرسول، الذي استشهد على جبال روما، وتلالها السبع، وآخرهم هو البابا الحالي فرانسيس الأول، والقصر الذي يعيش فيه البابا حاليا ويستقبل فيه كبار الزوار من رؤساء العالم، بدأ تشييده البابا «سيما كوس» (498 ـ 514) في سنه 505م، وتولي خلفاؤه من بعده توسيعه علي مر السنين.
يبلغ عدد البابوات الذين تم إشهارهم قديسين نحو 79، وأطول مدة الحبريات هي للبابا بيوس التاسع ومدتها نحو 32 عاماً، من سنة 1846 إلي 1878، وأقصرها للبابا اسطفانوس الثاني (Etienne II) ومدتها يوم واحد في سنة 852، ودامت حبرية تسعة باباوات مدة أقل من شهر، و39 بابا مدة أقل من سنة.
والبابا الأكبر سناً عند انتخابه هو البابا أدريانوس الأول المنتخب في سنه 772 وكان عمره 80 عاماً، وأكثر أسماء الباباوات شيوعاً هي يوحنا23 مرة، وغريغوريوس 16 مرة، وبيند يكتوس 15 مرة، والأسماء المستعملة مرة واحدة عددها 43، والمركبة اثنان.
كيف ينتخب البابا؟
كان للكرسي الأسقفي الروماني مكانة مميزة، إذ كان يعد الكرسي الرسولي الوحيد في إيطاليا وفي الغرب، الأمر الذي من أجله كانت تنسب إليه عظمة وهيبة العاصمة الإمبراطورية، وظل الأمر كذلك إلى أن أفل نجمه بدءاً من القرن الرابع بوضعه في مرتبة الكرسي الأسقفي العادي، مما أثار «داماسوس الأول» (366 ـ 384) أسقف روما، الذي تبنى قضية رفع شأنه، ومن بعده خليفته سيريقيوس (384 ـ 399م) الذي يعد أول من أعلن نفسه بابا كما أسلفنا، وأصبح هذا اللقب قاصراً على الحبر الروماني، اعتبارا من القرن السادس، وسار على هذا الدرب البابا «لاون الأول» (440 ـ 461م)، الذي جدد إعلان أن البابا هو خليفة القديس بطرس، الذي هو ليس أمير الرسل فحسب، ولكنه أمير الكنيسة الجامعة أيضاً.
اختلفت طريقة انتخاب البابا عبر العصور، فحتى القرن الحادي عشر كان ينتخب أسقف روما بمعرفة مؤمني الأسقفية، أي مسيحيي روما، ثم من أساقفة المقاطعة الرومانية، وظل الأمر كذلك حتى انتخاب البابا غريغوريوس العاشر (1271 ـ 1276) الذي استغرق قرابة ثلاث سنوات في مناقشات لا حد لها، ظل طوالها الكرسي البابوي شاغرا، فتقرر حينذاك، في أواخر القرن الثالث عشر، عزل الناخبين في مكان مغلق بالمفتاح طوال مدة الانتخاب، مهما طال مداها.
تغير المشهد في العصور الحديثة، ونحا إلى طريق أكثر ديمقراطية، إذ يقوم بانتخاب البابا الكرادلة فقط، والكرادلة يطلق عليهم «أمراء الكنيسة»، وينتخب البابا من بينهم، ويتم الانتخاب بحصول المنتخب على الأغلبية المطلقة للأصوات، وتتمثل في ثلثي عددها مضافاً إليها صوت واحد، وتصرف مهام دولة الفاتيكان العاجلة، في فترة الانتخاب، بمعرفة عميد المجمع المقدس، وبمعاونة ثلاثة من الكرادلة.
مدخنة كابلة سيكستين
ضمن الأمور الإجرائية الجوهرية في حاضرة الفاتيكان، والتي لا يوجد لها مثيل حول العالم، تلك التي تسير فيها الأحداث لانتخاب البابا الجديد، إذ يجري دوما في كنيسة أثرية شهيرة تسمي «كابلة سيكستين» في غضون ثمانية عشر يوما على الأكثر من تشييع جنازة البابا الراحل، ويشترك في الانتخاب الكرادلة دون الثمانين من العمر، ويرافقهم سكرتير المجمع المقدس، وطبيب وأب اعتراف وقندلفت (خادم الكنيسة)، وبعض رجال المراسم والشمامسة، ويظل الجميع في مكان مغلق حتى يتم الانتخاب.
ينتخب الكرادلة البابا الجديد، وهم في عزلة تامة عن العالم، وفي أجواء من الصلاة وطلب الإلهام والإرشاد الإلهي، وتبدأ إجراءات الانتخاب، وتتم عملية الانتخاب أربع مرات يوميا، مرتان في الصباح، ومرتان في المساء، ويؤدي الكرادلة القسم، قبيل كل اقتراع، على نقاوة نواياهم الانتخابية والالتزام بالسرية التامة بكل ما يدور في مجمع انتخاب البابا، تحت طائلة الحرمان الكنسي.
تحرق بطاقات الانتخاب أولا بأول، عقب كل عملية انتخاب، فإذا لم يسفر الانتخاب عن نتيجة، تحرق البطاقات مع قليل من القش المندى بالماء في مدفأة «كابلة سكستين»، فيتصاعد حينذاك من مداخنها الخارجية دخان كثيف أسود اللون، حتى يعلم المحتشدون في الخارج عدم نجاح الانتخاب، وفي حالة نجاحه تحرق البطاقات بدون قش، فتتصاعد عندئذ من المداخن سحابة بيضاء اللون، مما يدل على انتهاء مهام الكرادلة، بانتخاب الخليفة الجديد للقديس بطرس، رئيس دولة الفاتيكان.
إعلان البابا والشرفة البابوية
إلى هنا لم تنته المراسم، فقبل إعلان نتيجة الانتخاب رسميا على الملأ، الذين عادة يملأون ساحة القديس بطرس في مثل ذلك الوقت، يسأل المنتخب هل يقبل كرسي البابوية، وفي حالة موافقته يحصل بفعل الواقع على السلطة الكاملة على الكنيسة الكاثوليكية في سبع قارات الأرض، ويعلن أحد المسؤولين، وهو عادة الكاردينال الشماس الأول، من الشرفة الرئيسية لواجهة «بازيليكا القديس بطرس»، المطلة على ميدان الفاتيكان الشهير، انتخاب البابا بقوله باللغة اللاتينية Habemus Papam أي لدينا بابا، ثم يظهر البابا بعدها بثوان معدودات في نفس الشرفة لإعطاء البركة الرسولية المسماة باللغة اللاتينية Urbi et Orbi أي «للمدينة والعالم»، لآلاف المحتشدين في الميدان.
بعدها بأيام قلائل تتم مراسم تتويج البابا الجديد، في بازيليكا القديس بطرس، قصر الفاتيكان الروحي الأشهر، بحضور كبار رجال الكنيسة، وملوك ورؤساء وعظماء دول العالم، وعشرات الآلاف من المؤمنين من جميع أرجاء المعمورة الوافدين إلى روما المدينة المقدسة.
بازيليكا القديس بطرس
تعي الذاكرة الجمعية للأمم والشعوب مشهد كنيسة القديس بطرس، بوصفها أكبر كنيسة في العالم، لاسيما عبر قبتها الشهيرة، ويرجع الفضل إلي الإمبراطور قسطنطين الكبير في بناء هذه الكنيسة العظيمة في سنة 344م بالقرب من ملعب نيرون، حيث استشهد الرسول بطرس في سنه 67 ميلادية.
غير أنه بعد انقضاء حوالي ألف عام على إنشائها أشرفت الكنيسة على الانهيار، فكلف البابا نيفولاس الخامس في سنة 1452 أحد المهندسين بإصلاحها وترميمها، ولكن وفاته حالت دون إتمام الأعمال قرابة نصف قرن، وأسند البابا يوليوس الثاني عملية هدم الكنيسة، لبناء أخرى جديدة إلى المهندس «برامنتي»، الذي شرع في هدمها ضارباً عرض الحائط بما تحتوي عليه من أضرحة ورسومات وتماثيل حتي أطلق عليه كنسيا «معلم التخريب»، وتقبع أنقاض البازيليكا الأولى تحت الكاتدرائية الحالية.
تحتاج بازيليكا القديس بطرس، إلى مؤلف مستقل وبالصور لوصفها، غير أن اللمحة التاريخية تقتضي منا الإشارة إلى أنه بدأ تشييدها عام 1506 ميلادية وانتهى عام 1626، أي استغرق إنشاؤها 120 عاماً، في عهد وتحت إدارة 20 بابا، وتحت إشراف وتنفيذ عشرات من المهندسين والفنانين المتعاقبين.
وترجع فكرة إنشائها إلى البابا يوليوس الثاني (1503 ـ 1513م) في سنة 1505م، بغرض بناء ضريح له، وقد كان هذا البابا قوي الشخصية كرئيس للكنيسة وكسياسي ووطني وذو طموحات واسعة لرفع شأن البابوية والكنيسة وإيطاليا، وكان يدفع لإقامة بناء يمتاز بالفخامة والضخامة، يليق بمكانة البابوية والدين المسيحي عامة، والكاثوليكية خاصة.
أما الذين يزورون تلك الكاتدرائية فيشاهدون التاريخ حياً، ويلمسون النهضة الأوربية في صور ورسومات وتماثيل مايكل أنجلو، ورفائيل وكبار فناني عصر النهضة الإيطالية. فيما المنظر الرائع حقا والذي يستحق عناء الصعود إليه، فيتمثل في قبة البازيليكا، حيث يشاهد الناظر مدينتي روما والفاتيكان عن كثب، في لوحة يعجز اللسان عن وصفها.
الحرس السويسري وحماية البابا
إذا كان الفاتيكان دولة مستقلة ولها سيادتها فمن يتولى حماية البابا، لاسيما وأنه لا يوجد تحت إمرته فرق عسكرية كما تندر عليه ذات مرة الزعيم السوفييتي « جوزيف ستالين»؟
الشاهد أن الحرس السويسري الذي نراه على شاشات التلفزة بأزيائه التي تعود إلى القديم، والرماح والسيوف التي يحملها وتجاوزها الدهر، هم من يقومون بذلك.
تم إنشاء الحرس السويسري قبل سنة 1400، غير أنه كون رسميا في 21 يناير 1506 ويتولى حماية البابا، وحراسة منشآت الدولة في الفاتيكان، والمحافظة على النظام في الاحتفالات الدينية، والحق يقال إن مهمته استعراضية وشرفية أكثر منها دفاعية أو هجومية، تنفيذا لتعليمات البابا الذي يبغي دوما السلام، ويندد بالعنف.
يختلف الحرس السويسري اليوم كل الاختلاف عما كان عليه في الماضي من شباب ريفي قليل الثقافة والخبرة، ويقتضي على المرشح لهذا العمل الجليل في الوقت الحالي أن يكون في العشرين من العمر، حائزا شهادة دراسية، واثقا من نفسه كل الثقة، متفتحا على العالم، يجيد أكثر من لغة، وبطبيعة الحال كاثوليكي المذهب، ويتسلم عمله بعد فترة تدريب على استعمال السلاح والرماية والتدريب العسكري ودراسة اللغة الإيطالية والتعرف على الرتب الكهنوتية والمدنية.
يتكون الحرس السويسري، كما يشير الاسم، من شباب سويسري الجنسية، ويتطوع الشاب لمدة عامين، قابلة للمد، حسب رغبته، ليحظى بخدمة البابا، حبا له وتقديرا لدولة الفاتيكان، ويتقاضى راتبا رمزيا، إذا ما قورن بالرواتب في بلده.
يرتدي الحرس ملابس صيفية أو شتوية تبعا لفصول السنة، وتتكون من سدائب من القماش الأزرق والبرتقالي غير محاك، فوق سروال وسترة من اللون الأحمر، وخوذة معدنية ويحمل حربة أو سيفا، ويرجع الفضل في تصميم هذا الزي إلى الفنان الإيطالي الشهير «مايكل أنجلو»، وأن كانت قد طرأت عليه بعض التعديلات لاحقا.
يربو عدد الحرس السويسري عن 120 فرداً، منهم 30 من الرتب العليا، بالزي العسكري، أو بدونه، و90 من حاملي الحراب والسيوف، والحرس مجرد من الأسلحة النارية أثناء الخدمة خارج القصر البابوي، ولكن في حوزته قنبلة مسيلة للدموع، وجهاز إنذار إلكتروني، وفي ثكناته داخل دولة الفاتيكان ترسانة صغيرة، تزخر بالبنادق، والمسدسات والمدافع الرشاشة، التي نادرا ما تستعمل بناء على توصيات البابا.
هل الفاتيكان قلعة سرية؟
أفضل من قدم جواباً عن هذا السؤال كان «جون ل. ألين جونيور» أحد كبار المراسلين لمجلة ناشيونال كاثوليك ريبورتر، ومن كبار محللي الفاتيكان لشبكة CNN الإخبارية الأميركية الشهيرة، وعنده أن الفاتيكان ليس قلعة محاطة بالسرية بالفعل، ففي الحقيقة الفاتيكان أقل سرية بكثير من معظم المؤسسات الأخرى ذات الانتشار العالمي، كالحكومة الأميركية مثلا، أو شركة كوكاكولا، فالفاتيكان لا يجمع صوراً من أقمار صناعية تجسسية، وليس مهووساً بحماية تصميم أسلحة متطورة، وليس لديه أي أسرار تجارية أو قسم مختص بالأبحاث والتطوير، أو مخططات ترويجية يريد إبقاءها بعيدة عن المتطفلين، ونتيجة لذلك فإن معظم أعمال الفاتيكان تجري بشكل علني، خلافا لما يظنه الناس خارج الفاتيكان.
كما أن الفاتيكان لا يحسن الاحتفاظ بالأسرار حتى عندما يحاول ذلك. في النهاية أنه نظام بيروقراطي مليء برجال متشبثين بآرائهم وعنيدين. عاجلا أم آجلا، تتسرب معظم الأخبار، (ثمة مقولة شهيرة مفادها أن روما مدينة حيث كل شيء غامض، ولا شيء يخفى على أحد)
في صيف عام 2007 أصدر وقتها البابا بنديكتوس السادس عشر (البابا الشرفي الآن بعد استقالته) قراراً طال انتظاره يمنح الكهنة إذنا بالاحتفال بالقداس اللاتيني القديم. لكن عند صدوره، لم يكن للخبر وقع قوي لأن محتوى القرار كان قد تم تسريبه إلى الصحافة قبل أشهر وخضع لتدقيق شامل.
مشكلة الفاتيكان ليست الغموض المحيط به بقدر ما هي فرادته، فهو لا يشبه أي مؤسسة أخرى، ولديه تاريخه الخاص، ولغته الخاصة، وأنماطه الخاصة.
إن لم تكن تعرف الفرق بين الآراء اليسوعية والدومنيكية بشأن النعمة الإلهية في القرن الـ 16، مثلا، أو ما هي الحلة الكهنوتية البيضاء، ستجد على الأرجح صعوبة في فهم الحوارات داخل الفاتيكان. أو إذا كنت لا تعرف أن نائب الوزير في معظم المجالات هو الذي يقوم بالعمل الحقيقي، سيصعب عليك متابعة عمل الكنيسة غير الاعتيادي. السر لفهم الفاتيكان يكمن في فهم ثقافته، إذا نجحت في ذلك غالبا ما تزول هالة السرية بسرعة.
في عالم السياسة
تذكر وثيقة العقيدة الاجتماعية للكنيسة بأن الأفراد والجماعات المختلفة، وكل الذين يؤلفون الجماعة المدنية يشعرون بعجزهم عن أن يحققوا وحدهم حياة إنسانية كاملة، ويدركون ضرورة وجود جماعة أوسع نطاقا تتضافر يوميا، في داخلها قوى الجميع لتحقيق الصالح العام بصورة تزداد كمالا على مر الأيام، ولذا فهم يؤلفون جماعة سياسية ذات أوضاع قانونية متنوعة.
هذه الجماعات وجدت إذن لخدمة المصلحة العامة، وهي تجد فيها ما يبرر وجودها، تماما كما تجد فيها معناها، ومنها تستمد أصول شرائعها الخاصة، ولكن الأفراد، الذين يوجدون في الجماعة السياسية، عديدون ومختلفون، فهم يستطيعون أن يجنحوا لآراء متضادة، ولذا يتحتم وجود سلطة جديدة بأن توحد طاقات الجميع نحو المصلحة العامة، فتحول دون تفكك الجماعة السياسية باتباع كل واحد لرأيه الخاص، على ألا يتم هذا التوجيه بصورة آلية أو استبدادية، بل بتدخل السلطة كقوة أدبية ترتكز على الحرية وعلى تقدير المسؤولية.
لذا فإن على الكاثوليك في العالم أجمع مسؤولية حقيقية في عالم السياسة، وضرورة الالتزام الصحيح بها والبعد عن المقاطعة أو اللامبالاة حيال كل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية والسياسية، ذلك لأن كليهما يخلفان تأثيرا سلبيا ومؤذيا على سير الحياة الديمقراطية، ويعززان النزعة الفردية والأنانية.
فمن الواضح إذن أن الجماعة السياسية والسلطة العامة تستمدان كيانهما من الطبيعة البشرية، فتتبعان بالتالي نظاما حدده الله على أن يترك لإرادة المواطنين الحرة أمر تحديد نظم الحكم السياسية، وتعيين من يتولون إدارة دفة الحكم.
ويترتب على ذلك أيضا أن ممارسة السلطة السياسية، سواء من داخل الجماعة السياسية كجماعة أو في الأجهزة التي تمثل الدولة، يجب أن تتم في حدود النظام الأدبي، مستهدفة الصالح العام كقوة محركة، وذلك في ظل نظام قضائي أقيم فعلا بصفة شرعية، أو مزمع أن يقام، وعندئذ يلتزم المواطنون بحكم الضمير، ومن هنا تنبثق أيضا خطورة الدور الذي يضطلع به الحكام وكرامته وأهميته.
هل يمكن مقابلة البابا؟
السؤال الذي يردده الكثيرون من غير المسؤولين ورؤساء وزعماء العالم، هل يمكن مقابلة البابا بشكل شخصي؟
هناك في واقع الحال بعض المناسبات التي يسمح فيها للعوام بلقاء البابا، فيقدم راغب اللقاء طلب حضور المقابلات البابوية العامة أو قداس الحبر الأعظم إلى إدارة القصر البابوي (Prefettura)، والوصول إليها من الباب البرونزي للقصر على يمين ميدان القديس بطرس، وعلى الطالب إبراز ما يثبت شخصيته، وتجرى المقابلات البابوية العامة في قاعة البابا بولس السادس، والوصول إليها من باب قوس الأجراس على يسار ميدان القديس بطرس.
تجري المقابلة العامة في قاعة البابا بولس السادس المجاورة لميدان القديس بطرس في مدينة الفاتيكان، وأنشئت هذه القاعة الفسيحة، وهي غاية في الذوق الرفيع والجمال الهندسي، والمزودة بأحدث أجهزة الصوت والإضاءة في سنة 1971، لإقامة الاحتفالات البابوية، وتتسع لحوالي عشرة آلاف شخص، جميعهم جلوس على مقاعد مريحة، ويتوسط القاعة ممر عريض يمتد من مداخلها إلى المنصة الواقعة في مقدمتها.
عطفا على ذلك فإن هناك لقاء عاما يجمع المؤمنين وسائر الضيوف من أنحاء العالم كله، كل أربعاء في ميدان الفاتيكان، وعادة ما يكون أداة لتواصل البابا مع العالم من خلال التعاليم والعظة التقليدية، ويومها تمتلئ ساحة القديس بطرس بعشرات الآلاف من المحتفلين مع الحبر الأعظم.
ثم ماذا عن الفاتيكان؟
كانت هذه القراءة الأولية تتناول البنية التاريخية والهيكلية لتلك المؤسسة الدينية العريقة، غير أن الأهم يبقى متوارياً حول سياسات الفاتيكان، ولماذا أضحى لهذه المؤسسة دور فاعل على صعيد السياسات العالمية، لاسيما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة.
في مقدمة الأسئلة التي تشغل فكر الكثيرين: ما الدور الذي لعبه الفاتيكان في إسقاط الشيوعية؟ وماذا عن البابا يوحنا بولس الثاني تحديدا في هذا الإطار؟
هل تغيرت علاقة الفاتيكان بالعالم الإسلامي منذ ستينات القرن المنصرم، وتحديدا بعد ما عرف بالمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962 ـ 1965)؟ هل استطاع البابا الحالي «فرانسيس» أن يعيد العلاقات الجيدة بين الفاتيكان والعالم الإسلامي بعد الكبوة التي جرت بها المقادير في زمن سلفه البابا بندكتوس السادس عشر؟
إنها أسئلة تحتاج إلي قراءة أخرى.
نشأة الفاتيكان
كان عام 1929 هو موعد توقيع اتفاقية اللاتيران بين المؤسسة الكاثوليكية الرومانية، وبين جمهورية إيطاليا، لتنشأ دولة الفاتيكان، الأصغر من حيث المساحة، والأضخم والأكبر من حيث النفوذ العالمي.
تقع الفاتيكان في قلب مدينة روما على الضفة اليمنى لنهر التيبر على موقع ملاعب وحدائق الإمبراطور الطاغية نيرون.
وقع اتفاقية اللاتيران في 11 فبراير 1929 الكاردينال «جاسبيري»، ممثلا للكنيسة الكاثوليكية، وموسوليني رئيس الحكومة الإيطالية، وكان ذلك في عهد البابا «بيوس الحادي عشر».
بموجب اتفاق اللاتيران أضحت «الفاتيكان» دولة مستقلة يرأسها البابا روحياً ودنيوياً، دولة لها سيادتها الكاملة التي لا جدال فيها على المستوى الدولي، ولها حياد لا تنتهك حرمته، وفوق كل ذلك تبقى مركز إشعاع روحي يتخطى هويتها الدينية البحتة، إلى هوية إنسانية تدافع عن الإنسان، أينما كان من دون تمييز ديني أو عرقي.
دخان الانتخاب
تحرق بطاقات انتخاب البابا أولا بأول، عقب كل عملية انتخاب، فإذا لم يسفر الانتخاب عن نتيجة، تحرق البطاقات مع قليل من القش المندى بالماء في مدفأة «كابلة سكستين»، فيتصاعد حينذاك من مداخنها الخارجية دخان كثيف أسود اللون، حتى يعلم المحتشدون في الخارج عدم نجاح الانتخاب، وفي حالة نجاحه تحرق البطاقات من دون قش، فتتصاعد عندئذ من المداخن سحابة بيضاء اللون، مما يدل على انتهاء مهام الكرادلة، بانتخاب الخليفة الجديد للقديس بطرس، رئيس دولة الفاتيكان.
دولة «نصف كيلو متر مربع «
تبلغ مساحة دولة الفاتيكان نحو نصف كيلو متر مربع، تحدها أعمدة ميدان القديس بطرس، والأسوار العالية التي تحيط بها، ويقدر عدد سكانها بألف نسمة من خمس عشرة جنسية، وهذا يجعل منها أصغر دولة في العالم مساحة وسكاناً، في حين أنها تعد من أعظمها نفوذاً وسلطاناً، إذ على الرغم من صغرها البالغ، فلها تمثيل سياسي ودبلوماسي في غالبية دول العالم، ولها مراقب دائم في الأمم المتحدة، والسلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسول يتجاوز الـ 160 دولة، ويتبع البابا نحو مليار وثلاثمائة مليون كاثوليكي حول العالم، وللحبر الروماني الأعظم كلمة مسموعة، ورأي نافذ في كبريات المسائل والأزمات الدولية والعالمية.
________________________________