بعضُ الأحزان تُخفي قدرا من الكوميديا فلا يدري المرء الفاصل بين البكاء والضحك!
تنظر من بعيد إلى مارش العزاء في ضحايا تشارلي إيبدو مع ضحايا السوبر ماركت فتفهم أن المارش الدولي فيه روح الجنازة، فإذا اقتربت ستفرك عينيك للوهلة الأولى: هذا نتينياهو يتقدم زعماء الدول، لكن الدموع لا تريد أن تسقط إلا على اليهود.
لو أتيت باحصائية فيها كل جرائم أكثر الحاضرين فلا يبرر هذا من الفعل الإرهابي، فلسنا في حالة ثأر مع الصحافة أو الكاريكاتير أو اليهود، وحتى لو كان هناك صدام الأديان والحضارات فلا يمكن أن يمثل المسلمين حفنــةٌ من الغوغاء الارهابيين المدعومين من قوى دولية.
مطلوب مني أن أقف مع الضحايا، وأتعاطف مع حرية الكلمة، وأدافع عن حق القلم في التعبير عن سخط وغضب وتجاوز الخطوط الحمراء، ولن أتأخر.
والضحايا بالنسبة لي مسيحيون ومسلمون ويهود ولا دينيون، والتفرقة بينهم هي طائفية مقيتة، ميزان العدالة الدولية يطفف، ويغش، ويحتال، ويقلب الموازين، فدم اليهودي ليس أكثر نقاء من دم المسلم والمسيحي والبوذي والهندوسي والملحد.
لا أفهم الارهاب الإسرائيلي الذي يوحي للعالم أن اليهودي ينتمي إلى إسرائيل، وأن يأتي نتينياهو الذي تلوثت يداه مرات لا حصر لها بدماء أبناء الشعب الفلسطيني، مسلمين ومسيحيين، ثم يبكي على الضحايا اليهود في السوبر ماركت، ويطلب من الفرنسيين الــيهود والذين يعيشون في فرنسا ويعملون بها ويتكلمون لغتها أن يغادروا وطنهم الأم لينضموا إلى أتباع ديانتهم، دون أي اعتبار لهوية وثقافة أبناء شعب وتاريخ مشترك مع اخوانهم وأهلهم وأصدقائهم الفرنسيين.
كارثة صدام الأديان تبدأ من هنا، من نقل الولاء الوطني إلى الولاء الديني، فتتمزق الشعوب، ويقدم المرء دينه من الشعب الذي ينتمي إليه إلى الشعب الذي يتشارك معه في كنيسة ومسجد ومعبد.
بعض النقاد ورسامي الكاريكاتير وأكثر الكتاب حرية لو جلسوا مع أنفسهم وقاموا باحصاء الممنوعات والخطوط الحمراء وكل صنوف التابو لخجلوا من أنفسهم وهم يتحدثون عن مساحة الحرية اللانهائية، فكلنا بدون أي استثناء مكبلون بقيود سياسية أو دينية أو سلطوية أو أمنية أو أخلاقية أو ذاتية.
الإعلام عدو الإعلام، وهو يصنع الفكرة أو الخبر أو الفبركة، ويعيد صنع نقيضها إذا لزم الأمر، فإذا غضب على الأتراك استدعى الأرمن من صفحات التاريخ، أو ضخـــَّـم حروب اليونان، وإذا قاطع الروس قام بتذكير العالم بالشيشانيين،
والكذب ليس عكس الحقيقة، إنما عرض الحقيقة في غير موضعها أو زمنها أو ساحتها، وتستطيع كل دولة تعرضت للعدوان أن تستخدم تعبير الهولوكوست لتتحدث عن ضحاياها، في السابق وفي الحاضر.
الإعلام الغربي عند عرض مذبحة تشارلي تناسى أن التطرف الإسلامي يحاربنا نحن المسلمين قبل الغرب، وتناسى أيضا أن القاعدة والنصرة وفجر ليبيا وداعش صناعة غربية اكتوى بها المسلمون قبل الغربيين والأمريكيين.
إن الدفاع عن اليهود مهمة إسلامية، وواجب أخلاقي ، فقد احتموا في العالم الإسلامي لمئات السنين عندما كانت المحرقة فكرة في التمييز ضد أتباع موسى، عليه السلام، حتى وصلت إلى عمق الكراهية في ( كفاحــي ) لهتلر، وعندما صعد إلى السلطة في عام 1933وجد الكراهية قد امتدت في كل مكان.
إن الذين يطلبون من اليهود الهجرة إلى وطنهم(!) إسرائيل، يفرّغون مسقط الرأس الذي لا يعادله مكان آخر ( كما يقول شاتوبريان )، ليحشروهم في أوطان الغير، وهذا ليس عدلا، فمن يظلم اليهود كمن يظلم المسلمين، ويهودنا أقرب إلينا من كل الشعوب الغربية التي عاشوا بينها.
لا أظن أن يهوديا أو مسيحيا عادلا يرضى أن يضحك، ويبتهج، وهو يشاهد قلم رسام ماهر يجسد السخرية والتهكم من موسى والمسيح ومحمد عليهم السلام.
لقد أخطأ رسامو الكاريكاتير وناشرو الرسومات، ولكن الأوغاد القتلة الذين قاموا بالمذبحة هم أعداء الإنسانية.
إن تمزيق فرنسا بين يهود طيبين مسالمين وبين مسلمين أشرار دعاة حرب عمل ينبغي أن نفضحه، فملايين المسلمين الفرنسيين رموا وراء ظهورهم الفترات القاسية للاستعمار الفرنسي، ومنحوا فرنسا الولاء والحب والفن والأدب والعمالة وحتى في لحظات البطالة والحاجة والعوز ظلت فرنسا الأم الحنون لهم ، مع وجود العنصرية وسوء الفهم والفوقية من بقايا ( حرب الجزائر).
اليهود والمسلمون جزء لا يتجزأ من تاريخ فرنسا وثقافتها وفنونها وآدابها ، وأتمنى أن لا تخسر فرنسا يهوديا واحداً يهاجر إلى أتباع دينه في فلسطين المحتلة، أو مسلما واحداً ينخرط في عالم الدواعش والإرهاب.
أنا تشارلي وأحمد و.. آفي!
أنا مسلم ومسيحي ويهودي
أنا عربي يحتضن في صدره اليهود والمسيحيين والمسلمين