الجيل الثاني من المسلمين في أوروبا: هل يحمل هوية استبدادية؟

فخ الحتمية الثقافية

إن الهوية العرقية، كأي هوية جماعية، يمكن التلاعب بها من قبل الأفراد الذين، كونهم أحرار، يبقون بدون معرّفين بشكل كبير

(م. جيراود)

إن الأحداث الدامية الأخيرة التي حصلت في فرنسا أعادت توجيه الأنظار إلى مشاكل التعددية الثقافية ودمج “الجيل الثاني” من المسلمين في المجتمعات الأوروبية. تتم مناقشة هذه المشاكل بشكل متكرر بسطحية و تهويل والقول بأن الهوية الاستبدادية تنشأ وتتحدد حصراً طبقاً “للأصل العرقي” والخلفية الدينية أو الثقافية.

وتستهدف هذه الأحكام المسبقة بشكل رئيسي الجيل الثاني من المسلمين الذي يتكون من شباب يُنظر إليهم إلى حد كبير بأنهم مهاجرون، بالرغم من أنهم، وفي معظم الاحيان، لم يهاجروا من أي مكان على الإطلاق.

إن الخوف الغير مصرّح به غالباً، يتعلق بالصعوبات في استيعاب هؤلاء الشباب في المجتمعات الأوروبية. فقد ينظر إليهم بأنهم غرباء جاءوا من مكان بعيد ويحملون وجهة نظر دينية وثقافية بقدر ما هي جغرافية. بالإضافة لذلك، فإن “أصلهم العرقي” يعرّفهم لل”مستضيف” على أنهم نصف مواطنين لا يمكن الاعتماد عليهم تم تمزيقهم بين نظامين وثقافتين يزعمون تقبّل “القيم الغربية” (التي يتم تقبلهم بها) بشكل جزئي.

إن ظاهرة تثاقف الأجيال الجديدة من أطفال المهاجرين في بيئة حضرية، في حقيقة الأمر، يعتمد على إعادة تفسير ثقافات ذات أصول مختلفة ينبع منها ما يعرف ب “المزيج الثقافي”. بالتالي، فإن “هوية” هؤلاء الشباب وإحساسهم بالانتماء يعتبر فكرة مرنة لا يمكن تحديدها بديهياً من خلال تحديد نسبي للأصل العرقي أو الديني أو الهوية الثقافية.

في حقيقة الأمر، فإن الخيارات والسلوكيات والرغبات تنتج عن عدة عوامل كالطبيعة والثقافة والخلفية الاجتماعية والتعليم والتي تتقاطع وتمتزج مع بعضها لتشكّل نتائج هجينة قابلة للتغير بشكل كبير والتي قد تتضمن تناقضات في بعض الأحيان. يمكن للشباب أن يكوّنوا هوياتهم الشخصية بالتدريج من خلال الخلافات والمفاوضات في سبيل إيجاد دور لهم في المجتمع.

نقل الثقافة والصراعات بين الأجيال

تعتبر العائلة العامل الأول والأساسي في التنشئة الاجتماعية من خلال توفير قناة تواصل بكونها كوسيط بين الفرد والمجتمع. هنا تتكون الهويات في ظل تفاعل دائم مع الخلفية الثقافية الأصلية وقيم ومعايير المجتمع الجديد. تعتمد آليات ونتائج هذا التفاعل بشكل أساسي على عدة متغيرات وخيارات شخصية.

قد تصبح المعايير الدينية والثقافية أكثر صرامة في بعض العائلات، الأمر الذي قد يؤدي إلى دفاع قوي عن الهوية والقيم “التقليدية”. والتي ينظر إليها بأنها معارضة لتلك التي يحملها المجتمع المُستضيف والتي عادة ما تعتبر طائشة ومتساهلة.

ومن غير المعهود أن يبعد الشباب أنفسهم عن ثقافة وديانة آبائهم بشكل متزايد وحاد والتي ستؤدي إلى تضخيم وتفاقم الصراعات بين الأجيال في العائلة. فقد تؤدي هذه الخيارات إلى خلق توتر وارتباك لدى الشباب والتي تنقسم بين احترامهم وولائهم لعائلاتهم ورغبتهم في الاستقلال.

تتمحور الخلافات التي تنبع من معارضة الشباب “المهاجر” لعائلاتهم بشكل أساسي حول التوقعات والمخططات المستقبلية التي وضعها الأهل لأطفالهم والتي غالباً ما تتناقض مع تلك التي لدى هؤلاء الشباب. في عديد من الأحيان، يرغب هؤلاء الشباب بالاستفادة من الجوانب الإيجابية كالعمل والتعليم التي يوفرها المجتمع المستضيف. على الرغم من ذلك، قد لا يرغب الآباء بأن يتبنى أطفالهم سلوكيات وقيم معينة كالحرية الفردية وحرية الملبس والاختلاط وغيرها والتي يعتبرونها خطيرة وغير أخلاقية.

بالتالي، قد ينظر الأطفال إلى المطالب والتوقعات التي تواجههم على أنها ازدواجية ومتناقضة: فمن ناحية، هم مطالبون بالاندماج بشكل إيجابي وحيوي مع المجتمع “المستضيف”، والحفاظ على ثقافة وقيم ولغة المجتمع “الأصلي” من الضياع من جهة أخرى.

يمكن لهذه التناقضات أن تربك الشباب الذين يجدون أنفسهم مشوشين بين مختلف المطالب والإملاءات التي غالباً ما تكون على خلاف. بالتالي، غالباً ما يعيش الجيل الثاني من “اللاجئين” حياتين منفصلتين: خاصة داخل البيت تلائم وتحترم قوانين الأسرة المطبقة من قبل العائلة، وأخرى عامة اجتماعية يطغى فيها الحاجة للتقدير والرغبة في ملائمة أقرانهم.

ومن المرجح أن يؤدي هذا الانقسام بالعديد من الشباب إلى معاناة  “الاندماج الجزئي” في المجتمع “المستضيف” والذي من شأنه الحد من إحساسهم بالانتماء. علاوة على ذلك، يلاحظ الشباب “اختلافهم”، خلال فترة المراهقة أو ربما قبلها، بسبب تصرفاتهم التي تعتبر خارجة عن المعهود أو التمثيل الاجتماعي الذي يمثله المجتمع “المستضيف” ل”الأجانب” والتي ينظر إليها بشكل سلبي.

بالإضافة لذلك، فإن الاستنثاء الاقتصادي للعديد من هؤلاء الشباب في ظل صعوبة تحقيق اندماج حيوي وإيجابي في مجتمع أكبر قد يؤدي إلى اندماج تبعي ثانوي. ليس من النادر في مثل هذه الحالات لأشخاص كانوا قد ولدوا في دولة لجأ إليها آبائهم ألا يعرفوا إلى ثقافة ينتمون أو مع من يمكنهم المنافسة أو الاختلاف للتخفيف من حدة هذه التوترات. فحالة عدم التأكد والاستقرار تجعلهم عرضة لأشكال مختلفة من التلاعب

جسد المرأة: توترات وصراع الجندر

تأتي التناقضات والصراعات ظاهرة في الصعوبات التي تواجه تحديد سلوكيات الفتيات وأجسادهن. فمن جهة، يمكن رؤية الاختلافات الجندرية المتفتتة الآخذة في الانهيار في الجيل الثاني، في مقابل معاملة أفراد العائلة الأكبر سناً بتسامح أكبر لأبنائهم مقارنة ببناتهم ناهيك عن الاختلاف في المعاملة.

فبعض العائلات ترحب بعملية التحرر من محرمات مجتمعاتهم للأبناء فضلاً عن البنات، بهدف تسهيل ودعم اندماجهم في المجتمع “المستضيف”. ففي حين أنه يتم إرسال الأبناء إلى “العالم الخارجي” بحرية أكبر تجبر الفتيات عادةً على احترام ما تحرمه ثقافة آبائهم التي يتم فهمها على أنها رمز الحفاظ على الارتباطات بصورة المجتمع التقليدية.

ويأتي التحليل الذي قامت به شانتال سانت-بلانكات حول النساء المغربيات المهاجرات إلى فرنسا توجيهياً في هذا السياق. تربط سانت-بلانكات بين “الهوس” بجسد المرأة والسلوك الجنسي الأنثوي لحقيقة أن

“المرأة تمثل أساس تماسك نظام الأسرة وتناقل العادات الدينية وقواعد السلوك والممارسات الاجتماعية، والحفاظ على التراث الثقافي للمجتمع. بالتالي، فإن السلوك الجنسي للإناث أساسي للحفاظ على نقاء الجماعة”.

لذلك، وفي هذه الظروف، تبقى أجساد النساء وحياتهن الجنسية تحت رقابة صارمة من قبل أفراد الأسرة حتى في مضمونها المهاجر والتي تتمتع بتحررية أكبر في ظل وجود علاقات أسرية أقل محافظة.

أما بالنسبة للأفراد الذكور في العائلة، والذين يعون نمط حياة المجتمع المحيط ووجهة نظره المختلفة حول “الجسد” والأخلاق، قد يتحولون ليصحبوا مفعمين بالشك بشكل أكبر مما قد يؤدي إلى تطوير نزعة سلطوية ومضطهدة اتجاه الإناث في العائلة.

وبعبارة أخرى، فإن المواقف المحافظة جداً اتجاه تصرفات الإناث وسلوكهن الجنسي ليست ببساطة من مخلفات الثقافة “الأصلية” وإنما نتجت من التناقضات بين صراع الاندماج في المجتمع “المستضيف” المتقبّل لهم بشكل جزئي من جهة، والحفاظ على الهويات التقليدية وشبكة الدعم العائلية من جهة أخرى. لذلك، تعتبر أجساد وسلوكيات النساء الشابات مركز هذا الصراع.

تتبنى الفتيات استراتيجيات مختلفة للرد على مثل هذه المواقف المحافظة والتي تتراوح بين الخضوع لقوانين عائلاتهن وتحريم إعادة تفسير التقاليد وتطوير أشكال مختلفة من التمرد بنوعية الضمني والصريح.

غير أن خرق هذه القوانين بالكاد يخلو من الآلام: فمعرفة والديك بأنك قد خيبت توقعاتهم قد يسبب أزمة ومعاناة عميقة. وفي أقسى الحالات، يمكن أن يؤدي التحرر الفردي إلى تشققات حقيقية داخل الأسر، التي ينتج عنها المزيد من الألم والصعوبات.

التطّلع للحياة الحقيقة: الهويات السلسة وعدم المساواة

في الختام، تظهر خيارات وسلوكيات النساء والرجال، الشباب والكبار، صعبة التنبؤ أو غير خاضعة كلياً للمعاير الدينية والثقافية الخاصة بمجتمعهم الأصلي. فالممارسات والخيارات والرغبات ناتجة عن عدة عوامل (البيئة، الثقافة، الخلفية الاجتماعية، التعليم، إلخ) تحدث استجابات معقدة وفريدة من نوعها بالإضافة إلى قصص شخصية جداً.

 لذلك، فإنه من الضروري رفض أي حتمية ثقافية مبسّطة تعتبر أن الهوية الشخصية نتجت حصراً وغالباً بسبب الأصل العرقي، ولا تأخذ الفروق الدقيقة في الحياة الاجتماعية بعين الاعتبار. على عكس هذه التفسيرات، فإن الهوية الشخصية في حقيقة الامر تتشكل بشكل دائم ومستمر وفقاً لمطالب وقيم البيئة الاجتماعية والثقافية التي نعيش فيها.

يعتبر “الجيل الثاني” الأكثر حاجة للتقدير والتقبّل نظرا لخصائصه المحددة ووضعه الاجتماعي. في حين أن التهميش والاندماج الجزئي في المجتمع “المستضيف” من شأنه التقليل من شأن الإحساس بالانتماء والمواطنة التي، بالتالي، ستجعلهم صعغاء ومحرومين مقارنةً بأقرانهم.

بالإضافة لذلك، فإن التفرقة العنصرية والإقصاء من الحياة الاجتماعية والعامة قد تؤدي إلى سلوك معادٍ للمجتمع بشكل ملحوظ نسبياً يعزى إلى حد كبير إلى أسباب اجتماعية واقتصادية ناجمة عن التفاوت الاجتماعي، بدلاً من الاختلافات الثقافية والدينية. وفي كثير من الأحيان، تعتبر هذه الأخيرة مسؤولة عن الصراعات وسوء الفهم فقط.

كارولينا توميو

كارولينا توميو حائزة على شهادة في علم الإنسان (مع مرتبة الشرف) من جامعة كا فوسكاري في البندقية، إيطاليا شاركت في العديد من المشاريع البحثية، حول موضوع سياسات الهجرة و الاندماج، مع رؤية خاصة في الأسر المغربية و الجيل الثاني.

من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدام الكوكيز. المزيد من المعلومات

The cookie settings on this website are set to "allow cookies" to give you the best browsing experience possible. If you continue to use this website without changing your cookie settings or you click "Accept" below then you are consenting to this.

إغلاق