الثمن التركي “الباهظ” لسياسات أردوغان الخارجية

تعكس السياسة الخارجية لتركيا في الآونة الأخيرة، تلك المقولة الشهيرة التي تصفها بـ”الجمهورية الحائرة”. فبعد عقود من الارتباط الاستراتيجي بالغرب، والانضمام المبكر إلى حلف شمال الأطلنطي (الناتو) عام 1952، تتجه أنقرة تحت قيادة “رجب طيب أردوغان”، على وقع تداعيات الأزمة السورية، نحو روسيا، وتسعى جاهدة إلى الانفتاح على إيران والعراق، وتلوح بخيار الانفكاك عن السعي لنيل العضوية الأوروبية، والمنظومة الغربية.

مرت السياسة الخارجية التركية في ظل حكم حزب “العدالة والتنمية” بثلاثة أطوار رئيسية: أولها الانفتاح على دول الجوار الجغرافي وصولا إلى نظرية “صفر المشكلات” التي طرحها البروفيسور “أحمد داود أوغلو” -رئيس الوزراء السابق- واعتمدها “أردوغان”. وثانيها التخلي عن سياسة “صفر المشكلات” وتبني سياسة “ركوب موجة ثورات الربيع العربي”، حيث تبنت أنقرة دعم جماعات “الإسلام السياسي”، وتحديدًا جماعة “الإخوان المسلمين”، لإيصالها إلى السلطة كما حصل في تونس ومصر، على أمل أن تؤدي هذه السياسة إلى قيادة تركيا للشرق الأوسط في إطار النظريات التي طرحت لإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة تحت عنوان إقامة “الشرق الأوسط الجديد”. 

وارتبط الطور الثالث للسياسة الخارجية التركية بفشل الاستراتيجية السابقة، وعجز أنقرة عن إسقاط النظام السوري، لا سيما بعد أن حسم الأخير وحلفاؤه معركة حلب عسكريًّا، بانتقالها إلى مرحلة جديدة من أهم معالمها الرهان على العلاقة مع روسيا في اتباع سياسة “إنقاذية” في مواجهة صعود المخاطر على الداخل، خاصة مع موجة التفجيرات التي تضرب قلب المدن التركية، وكثرة التحديات الداخلية والخارجية في ظل رغبة “أردوغان” في إعادة تموضع العلاقات التركية مع الغرب بعد فوز “دونالد ترامب” في انتخابات الثامن من نوفمبر 2016.

وتثير التحولات والانعطافات في السياسة التركية العديد من التساؤلات، من قبيل: ما هي تكلفة هذه الانعطافات والتحولات في السياسة الخارجية التركية؟ وما هي تداعياتها على الداخل التركي؟ والأهم ما هو مستقبل تركيا في ظل هذا الكم الكبير من التحديات والمخاطر؟.

من التصفير إلى التوتير:

لعل السمة الأساسية للسياسة الخارجية التركية في ظل حكم “أردوغان” هي عدم الاستقرار، فمحاولته طي صفحة النموذج الكمالي (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية) أدى إلى حالة اضطراب كبير في السياسة الخارجية التركية، إذ إن المعادلة التي كرسها “أتاتورك” للارتباط بأوروبا تحت عناوين التحديث والعصرنة انتهت بتجميد مفاوضات أنقرة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. 

كما أن التحالف السابق مع إسرائيل شابه الكثير من التوتر والفتور على الرغم من المحاولات التركية الأخيرة لإصلاح هذه العلاقة، وتجاوز قضية الاعتداء الإسرائيلي على سفينة “مافي مرمرة” التي كانت تقل مساعدات إنسانية إلى غزة. ومن ثم، انتهت نظرية “صفر المشكلات” مع دول الجوار إلى تعميق المشكلات، وتحولت الحدود مع هذه الدول -كما هو الحال مع سوريا والعراق وأرمينيا وغيرها- إلى بؤر توتر وصدام وإن بالوكالة. واستعاد الصراع القديم–الجديد بين تركيا وإيران بعده العثماني-الصفوي على قاعدة البعد الطائفي السني-الشيعي، حيث تحولت العراق وسوريا ولبنان إلى ساحات لهذا الصراع. 

وتراوحت العلاقة مع العالم العربي بين التوتر مع دول مثل مصر، والتحالف مع قطر، ومحاولة التحسن مع المملكة العربية السعودية. وفي جميع تلك الحالات كان البعد الأيديولوجي حاضرًا ومحركًا أساسيًّا للسياسة الخارجية التركية تجاه العالم العربي الذي نظر إليه “أردوغان” بوصفه “إرثًا عثمانيًّا” يمكن الاعتماد عليه في بناء دور إقليمي يجعل من تركيا دولة مركزية مؤثرة في المنطقة. 

ومع تلك التحولات والانعطافات بدت السياسة التركية وكأنها تدفع أثمانًا باهظة، خاصة وأنها رافقت تحولات في الداخل التركي. وهو الأمر الذي دفع بالمؤرخ البريطاني “مارك ألموند” في الثالث من يناير 2017 في مقالة بصحيفة “ديلي تليجراف” البريطانية تعليقًا على التفجير الإرهابي الذي ضرب ملهى ليليًّا في إسطنبول ليلة رأس السنة إلى طرح تساؤل: هل تتحول تركيا إلى رجل أوروبا المريض؟. 

من دون شك، استوحى “ألموند” السؤال السابق من وحي الوصف الذي أطلقته بريطانيا على الدولة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى عندما أصابتها الشيخوخة، فانهارت مع نهاية هذه الحرب. ولعل مصدر هذا التشابه يعود إلى الظروف الصعبة التي تعيشها تركيا هذه الأيام، حيث تُعاني جملة تهديدات جدية يُضاعف من مخاطرها الأزمات والصراعات في الجوار، وانخراط تركيا طرفًا فيها. 

وفي المحصلة، فإن السياسة الخارجية التركية تبدو وكأنها تدفع أثمان رهاناتها الخاطئة عندما سعت إلى تحقيق مجموعة من الأهداف بأدوات لا تتناسب ومبادئ ممارسة السياسة في العلاقات بين الدول. فسياسة السعي لاستبدال أنظمة بأخرى يكون ركيزتها تيار “الإسلام السياسي” (جماعة الإخوان المسلمين) أدت إلى عزلة عربية لتركيا بعد سنوات من الانفتاح على الدول العربية لا سيما بعد سقوط حكم جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر، والذي كان بمثابة نهاية للمشروع الإقليمي التركي. 

أيضًا، أدت سياسة دعم الجماعات المسلحة في سوريا عمليًّا إلى بروز خطر انتقال الإرهاب والتطرف إلى الداخل التركي، حيث تحولت الحدود التركية-السورية إلى ما يشبه الحدود الباكستانية-الأفغانية، واتخاذ تركيا موقع باكستان عندما دعمت حركة طالبان قبل أن تتحول الحركة إلى خطر يهدد باكستان نفسها، وهو الأمر الذي يكاد يتكرر مع تركيا، خاصةً في ظل موجة التفجيرات التي تضرب قلب مدنها الكبرى.

 تفجيرات وصدامات 

عن التكلفة الأمنية التي تدفعها تركيا جراء سياستها الخارجية، يقول الصحفي وعضو جمعية “الأمل” التركية “إيلهان سلجوق” في مقالة له بصحيفة “جمهوريت” في الثلاثين من ديسمبر 2016، إن العنف وأخبار الحرب وتكرار التفجيرات جعلت المواطنين الأتراك يعيشون في خوف دائم، إذ إنهم باتوا على قناعة بأنهم لكي يعيشوا بأمان يجب أن يتسلحوا. ويضيف: يوجد اليوم سلاح في كل بيت من بيتين في تركيا. وهناك على الأقل 20 مليون قطعة سلاح فردي، 85% منها غير مرخص، أي إن كل أربعة أشخاص لديهم قطعة سلاح. 

ووفقًا لهذه الأرقام فإن تركيا باتت تحتل المرتبة 27 عالميًّا من حيث التسلح الفردي، وأن نسبة التسلح قد ازدادت عشرة أضعاف خلال العقد الأخيرة. ويضيف سلجوق: حصلت 2175 حادث إطلاق نار في عام 2015، استخدمت البنادق والمسدسات في 71% منها، كما ازداد عدد شركات بيع السلاح في تركيا بنسبة 10.2% في عام 2015 عما كانت عليه من قبل.

وتُشير هذه الأرقام إلى معادلة خطرة باتت تُهدد استقرار تركيا وأمنها، وهي معادلة تذكرنا بمقولة “كمال أتاتورك” الشهيرة “سلام في الداخل سلام في الخارج”، في إشارة إلى العلاقة المتداخلة بين الداخل والخارج، حيث قضايا الإرهاب والكرد والأزمة السورية.. إلخ، خاصة بعد أن انتهجت حكومة حزب “العدالة والتنمية” سياسة تدخلية أدت إلى انتقال خطر الإرهاب والعنف إلى داخل البلاد، والذي يتجلى اليوم على النحو التالي:

1- موجة التفجيرات التي تضرب المدن التركية الكبرى، من رمزها السياسي (العاصمة أنقرة)، إلى السياحي (مدينة إسطنبول)، وصولا إلى ديار بكر شرقًا التي تعد عاصمة الأكراد في جنوب شرق البلاد. واللافت أن هذه التفجيرات مُحكمة ودقيقة، وتلحق أضرارًا كبيرة بأمن البلاد وصورتها واستقرارها. وبغض النظر عن تعدد الجهات المتورطة فيها إلا أنها تُثير أسئلة كثيرة، خاصة وأن هذه التفجيرات تضرب أماكن حساسة وتحتاج إلى تحضيرات وخبرات وإمكانات.

2- بروز خطر تنظيم “داعش” في الداخل التركي، دفعت السياسة التركية في سوريا، وفشلها في إسقاط نظام “بشار الأسد”، وهجماتها ضد المعقل الرمزي لتنظيم “داعش” (مدينة الباب السورية)، إلى إعلان التنظيم تركيا أرض جهاد، وتبنى تفجيرات حصلت في الداخل التركي، كالتفجير الذي استهدف ملهى ليليًّا بإسطنبول ليلة رأس السنة (2017).

3- اشتداد حالة الصدام مع الأكراد، وهو ما أدى إلى حالة شقاق قومي كردي–تركي على مستوى البلاد. فالحرب التي تشنها الحكومة التركية ضد الأكراد والتي وصلت إلى حد حصار مدن كبرى وقصفها بالدبابات باسم مكافحة إرهاب حزب “العمال الكردستاني” أدت إلى ظهور تنظيمات كردية متطرفة تنتهج العنف. ولعل بروز تنظيم “صقور حرية كردستان” كفصيل انشق عن حزب “العمال الكردستاني” وتبنيه العديد من التفجيرات، يُنبئ بفصل دموي على صعيد القضية الكردية في الداخل التركي، لا سيما بعد أن قضت حكومة “حزب العدالة والتنمية” على فرصة عملية السلام مع حزب “العمال الكردستاني” بوضعها معظم قادة ونواب حزب “الشعوب الديمقراطي” -الموالي للأكراد- في السجن.

4- العنف والصدام بين الحكومة وقوى المعارضة، إذ لم يؤدِّ الصدام بين “أردوغان” وحركة الداعية “فتح الله كولن” إلى إنهاء التحالف العضوي الذي نشأ بينهما فقط، بل إلى حرب شاملة على كافة المستويات والمؤسسات في ظل إصرار “أردوغان” على إنهاء حركة “كولن”. فالحرب ضد الحركة طالت مختلف مؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والخدمية والإعلامية، فضلا عن نفوذها في مؤسسات الأمن والقضاء والشرطة والجيش، وهو ما أدى -عمليًّا- إلى المزيد من الاستقطاب والانقسام الداخلي، لا سيما وأن السلطات التركية قد استغلت الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو 2016 لسحق المعارضين لحكم “أردوغان”، وإقصائهم من مؤسسات الدولة في ظل التوجه إلى حكم رئاسي يُعطي للرئيس صلاحيات مطلقة، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى دخول البلاد في مرحلة جديدة من العنف والصدام في ظل المعارضة للانتقال إلى النظام الرئاسي.

تدهور اقتصادي

على وقع الأزمات الداخلية والخارجية، تشهد الليرة التركية انحدارًا سريعًا في قيمتها أمام الدولار، إذ فقدت نحو عشرة بالمئة من قيمتها خلال العشرة أيام الأولى من يناير 2017 رغم الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي لمنع انهيار قيمة العملة التركية. ويرى الاقتصاديون الأتراك أن السبب الأبرز لانهيار قيمتها هو الخوف من المستقبل، بسبب سلسلة التفجيرات الدموية التي ضربت السياحة وأثرت على مناخ الاستثمار، والأهم الغموض السياسي الذي يحيط بالبلاد منذ بدء البرلمان مناقشة التعديلات الدستورية المتعلقة بالانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي. 

ويرسم الانخفاض المتتالي لقيمة الليرة التركية صورة قاتمة للاقتصاد التركي، إذ إن من شأن ذلك تبخر قيمة دخل المواطن التركي، وفقدانه القدرة الشرائية، وعلى المستوى الوطني فقدان قيمة الدخل القومي المقدر بنحو ثمانمائة مليار دولار، وهو ما سيؤثر على جملة المشاريع الخدمية والعقارية الضخمة التي أطلقتها الحكومة التركية خلال السنوات الماضية، حيث توقف العمل بالعديد منها بسبب فقدان التمويل.

ومع تواصل سلسلة التفجيرات الدموية التي أثرت على السياحة بشكل مباشر، بدأت حركة الاستثمارات بالتراجع والهروب من البلاد، وهذا الأمر يُشكل نقطة خطر كبيرة على الاقتصاد التركي، إذ إن الاستثمارات الداخلية والخارجية تُشكل ما يقارب نحو 75% من حركة الاقتصاد التركي، وهي استثمارات وظفت بشكل أساسي في قطاعات الإسكان والخدمات والسياحة، وهو ما يفقد الاقتصاد التركي حجمًا لا يُستهان به من الدخل القومي. 

وعلى الرغم من محاولات المسئولين الأتراك التخفيف من وطأة تداعيات الأزمة الاقتصادية إلا أنهم بدءوا يتحدثون عن مخاطر العجز في الحساب الجاري والتوظيف والنمو والتضخم، وهو ما عكسه لقاء وزير الاقتصاد التركي “نهاد زيقجي” مع صحيفة “حرييت” في الثاني عشر من يناير 2017. 

وفي المجمل، بات الاقتصاد التركي على المحك في وقت تغيب فيه الرؤية الحقيقية أو برنامج إصلاحي لتجاوز هذه الأزمة، وإنقاذ الاقتصاد التركي وسط انقسام عميق، فالحكومة التركية كما جاء على لسان مستشار “أردوغان” للشئون الاقتصادية “جميل إرتم” ترى أن هناك مؤامرة تستهدف الليرة التركية لضرب الاقتصاد التركي. وعلى الجانب الآخر تحمل المعارضة التركية سياسات الرئيس التركي -على الصعيدين الداخلي والخارجي- مسئولية الانهيار الاقتصادي، وتقول إن  إنقاذ الاقتصاد لا يكون بالإجراءات والتصريحات الشعبوية التي تهدف إلى تمرير الانتقال إلى النظام الرئاسي، ولكن الأمر يتطلب برنامجًا إصلاحيًّا بعيدًا عن التدخل في سياسة البنك المركزي التركي.

في الختام، يمكن القول إن تركيا بدأت مؤخرًا تدفع تكلفة السياسة الخارجية والداخلية للرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” الذي ربط كل حساباته ببناء نظام سياسي يكون هو القائد الأوحد فيه. ولهذا فقد دخلت الدولة في مرحلة غير واضحة المعالم، فهي تخسر –كل يوم- المزيد من الاقتصاد والأمن والاستقرار والتعايش الاجتماعي.

 

________________________________

(*)   بقلم / خورشيد دلي ، نقلاً عن موقع المستقبل. الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي فورمينا

من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدام الكوكيز. المزيد من المعلومات

The cookie settings on this website are set to "allow cookies" to give you the best browsing experience possible. If you continue to use this website without changing your cookie settings or you click "Accept" below then you are consenting to this.

إغلاق