مر عامان ونيف منذ سيطرة جماعة الحوثي على السلطة في اليمن، تخللتهما أحداث مؤلمة أصابت المجتمع اليمني، وتجاوزت كل التكهنات والتوقعات، لتدخل هذه الدولة في نفق مظلم تجاوز كل الحدود، حيث تشهد حربًا لم تعهدها منذ عقود طويلة.
وعقّد التشابك تعدد أسباب تلك الحرب، بين ما هو داخلي وخارجي وإقليمي ودولي، وما هو مجتمعي وديني وقومي، في المشهد اليمني، وزاد من وتيرة الصراع وساهم في بقائه واستمراره. وترجع الأسباب التي ساهمت في استمرار الصراع، وعدم الوصول إلى تسوية سياسية تخرج البلاد من هذا الوضع الكارثي، إلى عوامل عديدة، يمكن طرحها – من وجهة نظرنا- على النحو التالي:
أولا: الموقف الضبابي للولايات المتحدة:
تلعب الولايات المتحدة الأمريكية على كل الحبال. ففي حين تقف مع الشرعية، وتساند كل قرارات الشرعية الدولية؛ إلا أنها -في الواقع- ترتبط بجماعة الحوثي من خلال مجموعة من التفاهمات التي منها: رؤيتها للجماعة كشريك محتمل في محاربة تنظيم القاعدة، كما أن الجماعات الشيعية -رغم شعاراتها المعادية للولايات المتحدة- إلا أنها لم تدخل في مواجهة أو صراع فعلي معها منذ قيام الثورة الإيرانية (1979) حتى اليوم. إضافة إلى أن الولايات المتحدة تعي جيدًا أن شعار الجماعة المتمثل في “الموت لأمريكا” هو شعار أجوف هدفه الاستهلاك الإعلامي الداخلي ولا يمت للواقع بصلة. وقد أكد ذلك التفاهم الذي جرى بين وزير الخارجية الأمريكي السابق “جون كيري” وممثل الجماعة في محادثات السلام “محمد عبدالسلام فليته” الذي تم في مسقط في (14 نوفمبر 2016)، حيث جاءت مبادرة “كيري” متجاوزة لقرارات الشرعية الدولية، ومخرجات الحوار الوطني والمبادرة الخليجية، وكانت أقرب إلى وجهة نظر الجماعة منها إلى قرارات الأمم المتحدة.
ثانيا- تعدد الولاءات القبلية
تتشابك المعطيات في المشهد اليمني -داخليًّا وخارجيًّا- بسبب الولاء القبلي. فرغم مميزات القبيلة التي كانت مصدر فخر واعتزاز، وكانت تتربع على أسس من القيم والمثل العليا كالنخوة ونصرة المظلوم ودفع الضيم عن الفرد أو الجماعة؛ إلا أن تلك القيم اضمحلت نسبيا، وحل مكانها القيم المادية التي سادت في العقود الثلاثة الماضية في اليمن. وما زاد من تعقيد المشهد -داخليًّا- شراء الولاءات، حتى أصبح تعدد الولاءات بين الفرقاء اليمنيين تكاد تكون ظاهرة للعيان وغيّر من المشهد بحكم القاعدة التي تُشير إلى أن من يسيطر على الأرض هو من يتحكم في الورقة القبلية.
ومع خبرة الرئيس اليمني السابق “علي عبدالله صالح” في إدارة القبيلة، فضلا عن امتلاك قيادات قبلية في الشمال لثقافة سائدة تقوم على المشاركة في السلطة ظاهريًّا من خارجها، وواقعيًّا تنخر في عظم السلطة وفي عصبها بالسيطرة على المال من الخزينة العامة؛ فقد أدى ذلك إلى انخراط قبلي في صفوف جماعة الحوثي ليكون المشايخُ هم المستفيدين من هذا الصراع ومن استمراره.
وبسيطرة الحوثيين على القبيلة، فإنها قد أصبحت جزءًا من المشهد الذي يتحكم فيه الحوثي وصالح أكثر من تحكم الحكومة الشرعية، خاصة أن الحوثيين يستخدمون القوة بإفراط ضد كل من يخالفهم. لذا، نجد أن هناك مراكز قوى قبلية ومجتمعية -بل وسياسية- تُساهم في استمرار الوضع الراهن، كونها مستفيدة من المشهد الحالي وتسعى لبقائه.
ثالثًا- تخوف الحوثيين من الانتقام:
هذا التخوف له أسبابه التي تتمثل في أن الجماعة أوغلت في العنف ضد كل من يخالفها، أو حتى من يقف على الحياد. لذلك تعي الجماعة جيدًا أن هذه التجاوزات التي قامت بها ستكون تبعاتها كبيرة، خاصةً في مجتمع قبلي كالمجتمع اليمني الذي لن ينسى ثأره الذي سينتقل عبر الأجيال.
لهذا، ترى الجماعة أن أي تسوية تُعيد الأمن والاستقرار إلى البلاد في ظل حكومة لا تخضع لسيطرتها ستكون له مآلاته السيئة عليها وعلى من والاها وصار على نهجها في استخدام العنف. فخضوع المجتمع حاليًّا لهذه الجماعة ناتج عن العنف الشديد المستخدم ضده، وعن عدم وجود رادع للأفعال التي يقوم بها أفراد الجماعة، وإفراطهم في القتل دون مساءلة أو عقاب.
رابعًا- مخاوف ما بعد الحرب:
إذ أن ثمة تخوفات من التحديات التي ستواجهها الحكومة الشرعية حال انتهاء الحرب وتسوية الصراع، خاصة في ظل وضع داخلي سيئ، حيث تُشير البيانات الى أن حجم التضخم في الاقتصاد وصل إلى أكثر من 21%، إضافة إلى خسارة الاحتياطي النقدي الأجنبي، وتوقف الإيرادات، وارتفاع الدين العام إلى أكثر من 74% من الموازنة العامة، وأكثر من 82% من الشعب تحت خط الفقر.
ويتأزم الوضع اليمني الداخلي مع ظهور جماعات متطرفة كتنظيمي “القاعدة” و”داعش” تهدد الوضع الأمني، خاصة مع انهيار المؤسسات الأمنية وجهاز الأمن القومي، وانتشار تنظيمات مسلحة لا تخضع للدولة. أضف لذلك ، البطء الشديد للحكومة الشرعية في بسط نفوذها على الأراضي التي تحت سلطتها، بخلاف ما تواجه من تحديات أخرى في اخضاع كل الجماعات العاملة حاليًّا في مقاومة جماعة الحوثي ونزع سلاحها عند دحر الانقلاب.
خامسًا- طبيعة تحالف صالح والحوثيين:
أصبح تحالف جماعة الحوثي والرئيس اليمني السابق “صالح” أكثر تماسكًا وقوة، سواء في أهدافه الاستراتيجية الآنية أو في خطابه الإعلامي. وهو تحالف “حياة” بكل ما تعنيه الكلمة، فمن جهة هو تحالف حرب مفتوحة داخليًّا ضد المناوئين له في المدن اليمنية، معتبرًا إياهم عملاء للخارج. ومن جهة أخرى هو تحالف ضد ما يسمونه بـ”العدوان الخارجي”، مستثمرين الحصار البري والجوي الذي تفرضه دول التحالف على الأراضي اليمنية التي تخضع لسيطرتهم، لدفع الشعب اليمني الموالي لهم إلى ساحات الصراع ترغيبًا وترهيبًا، مما ساهم في زيادة الشرخ الذي حل بالنسيج الاجتماعي؛ ليصبح الحل من وجهة نظر كل طرف هو إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر كحل وحيد وهدف يجب تحقيقه، خاصةً من قبل تحالف الحوثي وصالح الذي يرى أن أي تفاهم ستكون نتائجه تراجع مشروعهم في السيطرة والحكم.
سادسًا- الارتباط بالمشروع الإيراني:
لا يَخفى على كثيرٍ من الباحثين أن سبب هذا النشاط الكبير والمحموم لجماعة الحوثي في إعادة الانتشار والتمدد باستخدام القوة المفرطة داخل اليمن، يرجع إلى دخول العامل الخارجي الإيراني بقوة في هذه المرحلة بالذات، وهو الدور الذي لا يخفى وجوده على كثير من المراقبين، من خلال حالة الانفتاح والدعم الكبير الذي تتمتع به هذه الجماعة على أكثر من صعيد، رغم حداثة نشأتها نسبيًّا.
إن العلاقة القائمة اليوم بين إيران وجماعة الحوثي ذات طبيعة سياسية براجماتية ترتكز على تحقيق مصالح الطرفين. ويأتي الدعم الإيراني للجماعة متسقًا مع استراتيجيتها في التمدد والانتشار من خلال وكلائها الطائفيين، كالحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، وفيلق بدر في العراق، واستخدامها لهم كأوراق سياسية في وجه خصومها ومنافسيها الإقليميين والدوليين. ولهذا يهدف الدور الإيراني إلى إيجاد موطئ قدم لطهران في اليمن، على غرار ما حدث في العراق وما يحدث في سوريا حاليًّا.
سابعا – الاختلاف على أولويات بنود التسوية:
كل اللقاءات التي جرت بهدف حل الصراع، سواء في جنيف أو الكويت، وكل التفاهمات التي سعت إلى تثبيتها الأمم المتحدة بما في ذلك تفاهمات ظهران الجنوب، وتشكيل لجان أمنية لمراقبة وقف إطلاق النار، باءت بالفشل، بسبب عدم قبول الحوثيين تسليم السلاح قبل إيجاد تسوية سياسية، وهو ما ترفضه الحكومة الشرعية التي تُصر على تطبيق قرارات الشرعية الدولية، وتسليم السلاح، والخروج من العاصمة، وتسليم مؤسسات السلطة.
ويُشير ذلك إلى أن جماعة الحوثي وصالح يعيان جيدًا أن تسليم السلاح سيفقدهما قوتهما التي يعتمدان عليها في بسط سلطتهم، لذا نجد أن هذه أهم نقطة تساهم في عدم الوصول إلى حل، وبقاء الصراع على أشده.
ثامنا – تحييد الحوثيين للقيادات الحكومية:
تقريبًا كل القيادات التي تتحكم في المشهد الداخلي في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي حاليًّا هي قيادات من الجماعة، وخاصةً تلك القادمة من صعدة، وأولوياتها مصلحة الجماعة والحفاظ على مكتسباتها، ولن تستسلم بسهولة أو تسلم السلاح طوعًا، فهي تَحكم بعقلية الجماعة وليس بعقلية مسئولي دولة.
بالإضافة إلى أنها ترى في نفسها التنزيه والأفضلية والأحقية في الحكم على ما عداها من جماعات. وهي جماعة سيطرت على السلطة بقوة السلاح، وأخضعت الشعب بواسطة العنف. وهذا ما عقّد المشهد اليمني، وساهم في زيادة الاحتقان المجتمعي، وجعل تكلفة السلام باهظة الثمن.
تاسعا- تعدد القوى الفاعلة في الصراع:
كان لتعدد القوى الإقليمية والدولية أثره في استمرار الصراع، وساهم في زيادة الاضطرابات التي تعصف باليمن دون أن تكون هناك أي مؤشرات واضحة للوصول إلى نهاية لهذا الصراع. فحجم التدخل الإقليمي والدولي في اليمن توسع ليشمل لاعبين دوليين، مثل: روسيا، والصين، والولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، وفرنسا، حيث إن لكل دولة مصالح معينة في اليمن، ويتحدد حجم تدخلها وفقًا لهذه المصالح ووفقًا للمواجهات الإقليمية والدولية في المنطقة العربية.
الخلاصة:
لا أفق لحل الصراع اليمني على الأقل في الأفق المنظور، ليس للأسباب التي تم سردها فيما سبق فحسب، بل لأن الظروف لم تتهيأ للسلام بعد. كما أن الوضع الداخلي ما زال يُشير إلى زيادة التمترس والاحتقان، في حين أن البعض قد أصابه الإحباط وفقدان الأمل في الوصول إلى حل، كون كل اللقاءات التي جرت لإيجاد تسوية تنتهي من حيث بدأت.
ويدل ذلك على عدم وجود نوايا حقيقية لدى جماعة الحوثي وصالح في العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل 21 سبتمبر 2014، وفقًا للمبادئ التي جرت على أساسها المحادثات والتي تصر الحكومة الشرعية على أن أي تسوية لن تتم إلا وفقًا لهذه المبادئ، رغم معرفة الحوثيين أنهم يواجهون المجتمع الدولي الذي يقف مع الشرعية الدستورية، ويرفض الاستيلاء على السلطة باستخدام القوة تحت أي مبرر، ورغم ما أصاب المجتمع اليمني من أضرار وما يعانيه من قتل وتشريد وانتهاك للحرمات.
________________________________