الرئيس الفرنسي يحلم بأوروبا “مستقلة ” وتحت قيادته، فما احتمالات نجاحه في تحقيق ما يحلم به؟
يريد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن تكون أوروبا “قوية وذات سيادة كاملة”، فما مدى قدرته على تحقيق ذلك؟ وهل الانفصال عن الولايات المتحدة وحلف الناتو في صالح القارة العجوز؟
مجلة Foreign Affairs الأمريكية تناولت تلك الأسئلة في تحليل لها بعنوان “رؤية ماكرون المعيبة لأوروبا“، رصد كيف أن استقلالية القارة العجوز بالنسبة لماكرون تعني أن تكون لها القدرة على تشكيل الأحداث العالمية، وهو ما لا يتوفر لأوروبا حالياً، ولا توجد فرص واقعية لتوفره مستقبلاً.
ففي 9 ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، في مؤتمرٍ صحفي نادراً ما يُعقَد مثيله، اقتبس ماكرون من سابقه شارل ديغول، وأعلَنَ أن هدف القارة يجب أن يكون خلق “أوروبا قوية نشطة في العالم، ذات سيادة كاملة، حرة في اختياراتها وتتحكم فيها، وتكون سيدة مصيرها”. وعلى غرار ديغول لا يريد ماكرون أن تكون أوروبا -أو فرنسا- مراقباً عاجزاً في عالمٍ تتزايد فيه المنافسة على النفوذ بين الصين الصاعدة والولايات المتحدة.
عالم مختلف عن الحرب الباردة
بالمقارنة مع الستينيات، لم يعد العالم محدداً بصراعات الحرب الباردة بين قوتين عظميين. ترى الولايات المتحدة الآن أن الصين ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ هي أكبر أولويات سياستها الخارجية، ويواجه التحالف عبر الأطلسي العديد من التحديات، مثل معالجة تغيُّر المناخ وتنظيم التقنيات الرقمية الجديدة.
ولكن رغم أن ماكرون مُحِقٌّ في دفع الأوروبيين لتقييم مكانة القارة في العالم، فإنه لم يضع بعد الأولويات التي ينبغي أن توجِّه أوروبا، علاوة على أنه لم يضع استراتيجيةً لتوسيع قدرات القارة حتى تتمكن من العمل وفقاً لهذه الاستراتيجية. تُعَدُّ رؤية ماكرون أكثر من مجرد أنها تتناول كلَّ شيءٍ من التعددية المتزايدة إلى استراتيجيات مكافحة الإرهاب إلى المحادثات حول تعزيز أمن القارة.
وتبدو بعض المقترحات متناقضة، مثل الرغبة في أن تمتلك فرنسا “القدرة على الترتيب والتأثير بين الدول الأخرى”، أي بلدٍ يكون فيه الفرنسيون “أسياد مصيرهم”، ولكن أيضاً بلدٌ يكون فيه “صنع القرار المستقل متوافقاً مع التضامن الثابت مع الشركاء الأوروبيين”.
وتبدو الأفكار الأخرى إشكالية، ومن غير المرجح أن تجد التزاماً واسعاً مثل اقتراح ماكرون بأنه “لا يمكن أن يكون هناك مشروع دفاعي وأمني للمواطنين الأوروبيين بدون رؤيةٍ سياسية تسعى إلى تعزيز إعادة بناء الثقة تدريجياً مع روسيا”.
تفترض هذه الرؤية أن القارة، التي لها تاريخٌ طويل من الانقسامات، مُتَّحِدة الآن في الدفاع والسياسة الخارجية. لكن نظرةً خاطفةً على النقاشات الأخيرة حول روسيا والصين وحتى الولايات المتحدة تُظهِر افتقاراً إلى التماسك الاستراتيجي بين الدول الأوروبية، باختصار يمكن أن تؤدِّي رؤية ماكرون إلى تقسيم أوروبا وإضعاف قدراتها وتركيزها، وكلُّ ذلك مع استغلال أسوأ غرائز الولايات المتحدة للانفصال عن التحالف عبر الأطلسي للتركيز على الصين.
أزمات وتوتر بين أمريكا والناتو
تقدِّر جميع الدول ذات السيادة استقلاليتها، واللغز التاريخي الحقيقي هو فهم تلك اللحظات التي تستوعب فيها الدول بعض عناصر حريتها في العمل من أجل الصالح العام. توقَّعَ معظم الناس أن تعيد الولايات المتحدة قواتها العسكرية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لأنها لم تشارك قط في تحالفٍ عسكري في وقت السلم في تاريخها. لكن الترتيبات الأمنية للتحالف عبر الأطلسي استمرَّت قرابة ثمانية عقود، وتجاوزت التغيرات العميقة في النظام الدولي من سقوط الاتحاد السوفييتي إلى صعود الصين.
من المؤكّد أنه كانت هناك لحظاتٌ من التوتُّر، وحتى الأزمة أزمة قناة السويس عام 1956 تعود إلى غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003. وقد ابتُلِيَت العلاقة الأكبر عبر الأطلسي بالخلافات حول من يتحكم في الأسلحة النووية والتجارة والسياسة المالية وخطوط أنابيب الغاز، والآن تنظيم التكنولوجيا. تُعَدُّ الخلافات الحادَّة سمة للعلاقات عبر الأطلسي وليست خللاً، والقدرة على إدارة هذه النزاعات هي العبقرية الفريدة للتحالف الغربي. أما الاستقلال الاستراتيجي -حيث تسعى كل دولة إلى تحقيق مصالحها الوطنية- فقد كان دائماً الحلَّ الأسهل، ولكنه ليس الأكثر فاعليةً.
كانت أوروبا أكثر سلاماً مما كان يتخيَّله أيُّ شخصٍ عندما تأسَّسَ الناتو في عام 1949. دُمِجَت اقتصاداتها ومجتمعاتها وحكوماتها المتباينة بطرقٍ لم يكن من الممكن تصوُّرها عند معاهدة روما، التي أدَّت إلى إنشاء المجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1957. سكان الاتحاد الأوروبي متعلمون بدرجة عالية، ومتقدِّمون تقنياً، وبحسب بعض المقاييس، أغنياء، إن لم يكونوا أكثر ثراءً، من سكَّان الولايات المتحدة والصين. وتطوير استراتيجيتها الكبرى الخاصة بها وتوفير الأمن الخاص بها سيكون خطوةً طبيعيةً تالية.
مثل هذا الحكم الذاتي جذَّاب بشكلٍ خاص في وقتٍ تضرَّرَت فيه سمعة الولايات المتحدة في القارة. أثارت السياسات غير المنتظمة لإدارة ترامب وقرار الانسحاب من أفغانستان تساؤلاتٍ حول مصداقية الولايات المتحدة كشريكٍ استراتيجي. ثم أثارت صفقة الغواصات في الاتفاقية الأمنية الثلاثية بين الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة (اتفاقية أوكوس)، التي توسَّطَت فيها إدارة بايدن مع أستراليا والمملكة المتحدة غضباً في باريس، فقد حرمت الفرنسيين من عقد مربح دون إعطاء إشعار مسبق لحكومة ماكرون، على ما يُزعم. ولا عجب أن يرحِّب العديد من القادة الأوروبيين برؤيةٍ استراتيجية مُقنِعةٍ ومتماسكةٍ ومشتركة على نطاقٍ واسع.
يجب على الولايات المتحدة ألا تستبعد المكاسب المُحتَمَلَة لحكم ذاتي أوروبي أكبر. وسيكون من الأسهل بكثير على الولايات المتحدة احتواء الصين إذا تولَّت أوروبا المزيد من المسؤولية عن أمنها الجماعي. وفي الواقع التزم مهندسو الولايات المتحدة لنظام ما بعد الحرب في أوروبا بالقارة على أمل أن يصبح الوجود الأمريكي في النهاية غير ضروري. ولم يكن التزام الولايات المتحدة تجاه أوروبا مُكلِّفاً فحسب، علاوة على أنها حدَّت من الاستقلال الذاتي الاستراتيجي للولايات المتحدة، نظراً للالتزامات الواسعة التي قطعتها على نفسها تجاه الدول الأوروبية. وتُظهِر عواقب هذا الاعتماد المُتبادَل بينما تتفاوض الولايات المتحدة مع روسيا حول مستقبل الأمن الأوروبي في أوكرانيا، من اللافت للنظر أن أوروبا لم تكن قادرةً على ردع العدوان في قارتها دون تدخُّل الولايات المتحدة.
تشخيص خاطئ لمشاكل أوروبا
قد تستفيد أوروبا والولايات المتحدة من تصعيد الأوروبيين، لكن اقتراح ماكرون بالتحدُّث نيابةً عن أوروبا مع المطالبة بدورٍ قيادي في المناطق الساخنة حول العالم هو الحلُّ الخاطئ للمشكلات التي حدَّدَها. صعود الصين، والعدوان الروسي، وإضعاف الديمقراطية، والاحترار العالمي، وتنظيم التكنولوجيا، والصحة العامة، فكلُّها أمورٌ تتطلَّب إجراءات جماعية، وهذا عكس ما يبدو أن الرئيس الفرنسي يقترحه. وبدلاً من القيام بذلك بمفردهم سيكون من الأفضل للأوروبيين العمل مع الولايات المتحدة على بعض الأولويات الرئيسية.
على النقيض من ذلك فإن استراتيجية ماكرون المقترحة تحتضن جميع التحديات الجيوسياسية الرئيسية في العالم، بينما تسعى أيضاً إلى القيادة في التحديات الكبرى الراهنة العابرة للحدود. أوضح الرئيس الفرنسي أنه على الدول الأوروبية تحمُّل المزيد من المسؤولية للدفاع عن القارة، وأعلن أيضاً أن فرنسا قوةٌ في المحيطين الهادئ والهندي.
لم تتخلَّ فرنسا عن تركيزها على الإرهاب، وهو ما يدفعها، إلى جانب روابطها العائدة إلى الحقبة الاستعمارية، إلى الاهتمام الشديد بسياسات منطقة الساحل والشرق الأوسط الكبير. وفي غضون ذلك، أعلنت فرنسا وأوروبا أن أزمة المناخ هي التحدي الوجودي الأكبر في العالم. كل هذا يجب مواجهته مع دعم الديمقراطية وتقوية النظام الاقتصادي الليبرالي في خضم جائحة كوفيد-19 الكارثية.
ستكون هذه الأجندة صعبةً، بل مستحيلةً، حتى لدولة أقوى بكثيرٍ من فرنسا أو حتى لأوروبا ككل. وسينتج عن نهج ماكرون أن تؤدِّي أوروبا، بدلاً من القيام بشيءٍ أو شيئين جيِّدين، أداءً سيئاً في كلِّ شيء.
هذا علاوة على أن فرنسا لا تتحدَّث باسم الاتحاد الأوروبي، وفي محاولتها لتولِّي هذا الدور تهدِّد بتقسيم القارة أكثر. هناك خلاف كبير داخل أوروبا حول كيفية التعامل مع مجموعة التحديات التي تواجهها، وخاصة عندما يتعلَّق الأمر بالأمن. طرح الاتحاد الأوروبي عدداً من المبادرات الدفاعية، بما في ذلك التعاون المنظم الدائم (PESCO)، وهي مجموعةٌ من المبادرات التي أُطلِقَت قبل أربع سنوات لتعزيز التعاون الدفاعي بين الدول الأعضاء المشاركة في الاتحاد الأوروبي، وصندوق الدفاع الأوروبي، الذي يدعم البحث والتطوير العسكري التعاوني، وجيش أوروبي مُحتَمَل، تلك الفكرة القديمة التي أحياها كلٌّ من ماكرون والمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل في السنوات الأخيرة. ولا يمكن لأيٍّ من هذه الأفكار أن تنطلق بدون إجماع أوروبي على الأولويات، وهذا ببساطة غير موجود حتى الآن.
لنأخذ روسيا على سبيل المثال، تريد فرنسا أن تعطي لروسيا رأياً في الأمن الأوروبي: في عام 2019، على سبيل المثال، أرسل ماكرون وزيري دفاعه وخارجيته إلى موسكو لاستكشاف طرق لإعادة البلاد إلى حظيرة الدول الصناعية، وكسر تجميدٍ دام أربع سنوات، في مثل هذا المستوى الزيارات الدبلوماسية عالية المستوى. ويدعو ماكرون أيضاً إلى تقييم الناتو، الذي يزعم أنه يعاني من “الموت الدماغي”. في المقابل، تريد بولندا وحلفاء آخرون في الناتو على مقربة شديدة من روسيا دفاعات قوية على حدودهم، ووجوداً دائماً للقوات الأمريكية -ومع تصعيد روسيا لاحتمال إعادة غزو أوكرانيا تبدو هذه الآراء مُبرَّرة.
تنعكس الانقسامات نفسها في معاملة الولايات المتحدة. بعد الفشل الذريع لاتفاقية أوكوس، تنظر فرنسا إلى الولايات المتحدة كشريك لا يمكن الاعتماد عليه، يطعن الحلفاء في الخلف لصالح عقود الدفاع، بينما ترى دول أوروبا الشرقية أنها شريكٌ لا غنى عنه.
وتوجد انقسامات أيضاً فيما يتعلق بالصين. قال الدبلوماسي السابق ووزير المالية الفرنسي برونو لومير لفورين بوليسي، إن أوروبا تريد “الانخراط” مع الصين. سعت ألمانيا بقيادة ميركل إلى إبرام صفقة استثمارية بعيدة المدى مع الصين، الاتفاقية الشاملة للاستثمار، التي علَّقها الاتحاد الأوروبي لاحقاً، وانضمت إيطاليا إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية في عام 2019.
وفي الوقت نفسه، أبلغت الحكومة الليتوانية مسؤوليها بالتوقُّف عن استخدام الهواتف الصينية التي تقول إنها تحتوي على برامج مراقبة، كما أبلغتهم بترك منتدى إقليمي تقوده الصين. أما رومانيا فقد طردت هواوي من شبكات الجيل الخامس الخاصة بها، ومنعت صفقاتٍ للصين لبناء مفاعلات نووية في البلاد.
تفترض استقلالية ماكرون الاستراتيجية أيضاً أن أوروبا جهةٌ فاعلةٌ مستقرةٌ ومتماسكة في مسارٍ إيجابي. وهذا افتراضٌ خطير، إذ إنه بعد عقودٍ من التكامل الاقتصادي والسياسي وبناء المؤسَّسات، أصبح المشروع الأوروبي نفسه تحت الضغط. من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى التراجع الديمقراطي إلى النمو الاقتصادي غير المتكافئ، لا يمكن اعتبار التماسك أو الاستقرار الأوروبي أمراً مفروغاً منه.
ولدى ألمانيا قيادةٌ جديدة لأول مرةٍ منذ 16 عاماً، وتوجُّهها الاستراتيجي المستقبلي غير مؤكَّد، ولكي نكون منصفين يدرك ماكرون الحالة المتقطعة للشؤون الأوروبية، ومعظم استراتيجيته هي دعوة القارة إلى “الاستيقاظ”، ومع ذلك فإن توصياته تخاطر بمزيدٍ من الانقسام في أوروبا، من المؤكَّد أن أوروبا الضعيفة والمنقسمة لن تفيد الولايات المتحدة على المدى الطويل.
________________________________